مثل “الغناء الشعبي الفلسطيني” توثيقًا مهمًّا لكل مراحل الفرح والحزن والنضال التي مرّ بها شعبنا عبر العصور الفائتة، وهو جزء مهم من الذاكرة والقيم الفلسطينية، خاصة في مرحلة الثورة الفلسطينية بعد الاحتلال البريطاني لفلسطين. وكان للمؤلفين الفلسطينيين جهود كبيرة في توثيق تلك الأغاني وحفظها من الاندثار، أحد مكونات الثقافة الفلسطينية الرئيسة، وحاولت تلك المؤلفات حصر الأغاني الفلسطينية في عدة قوالب، منها: الميجانا والعتابا والشروقيات والمطلوع. ومع وجود تداخلات وتشابه كبير بين الغناء الشعبي الفلسطيني والغناء التراثي في بلاد الشام؛ انعكس التحول الذي طرأ بعد وعد “بلفور” 1917م، وخشية الإنسان الفلسطيني فقدان أرضه والتشرد والضياع على تعابيره ومفرداته وعاداته وتقاليده، كما يبين المؤرخ الفلسطيني حسن الباش، في كتابه المعنون بـ: “الأغنية الشعبية الفلسطينية – تراث وتاريخ وفن”، الصادر عام 1979.
وفي قراءته للكتاب يقول الكاتب الفلسطيني المهتم بالتراث الشعبي أيمن حسونة: “إن الحنين المتدفق للأرض والوطن يميز الأغاني الفلسطينية، وهي صفة تزايد وجودها وحضورها بعد النكبة، كما أنها أغنية وطنية عابرة للقرية والبلدة والمدينة”. ويعدد حسونة أشكال الغناء الشعبي، مستهلًّا بـ”الموال” وهو بيتان فقط يحكيان “خاطرة أو حكمة ما”، ويُقسم إلى قسمين رئيسين: العتابا والميجانا، ومع تشابههما من حيث السير على الأبحر الشعرية الموزونة هناك فروقات أساسية بينهما، أهمها أن العتابا تقوم على بحر الوافر، ولا بد أن تنتهي آخر كلمة في الشطر الأخير بحرف الباء الساكن، على حين تقوم الميجانا على بحر الرجز، أمّا نهاية الشطر الثاني فيجب أن تكون الكلمة منتهية بحرف النون مع الألف الممدودة .
صبغة ثورية ونضالية وتبعًا لحديث حسونة؛ تلي “الشروقيات” “المواويل” بالانتشار، وهي عبارة عن قصائد شعبية طويلة، تُؤدى في الأعراس والاحتفالات العامّة والجلسات القروية، وتمتاز بأنها تروي قصة معينة لها أحداثها وتاريخها، وتستمد من الشعر العربي التقليدي شكلها ومضمونها. ويبين أن الصبغة الثورية والنضالية طغت على معظم الشروقيات المتداولة في فلسطين، وقد نُظم العديد منها على لسان الثوار لوصف معركة خاضوها مع الإنجليز أو العصابات الصهيونية إبان النكبة.
في حين تعد التحداية جزءًا مهمًّا من احتفالات الزفاف في فلسطين، ولها أوقات معينة وترتيبات معينة خلال الحفل، إذ يصطف الرجال صفّين ويؤدون نوعًا من الدبكة سهلة الحركة وسريعة، يتكاتفون يمينًا ويسارًا، ويشرع أحدهم في الغناء، وفي الصف الآخر رجل يقابله، فيتحاوران في التحداية، وتؤدى بنبرة قوية وضخمة، ويردد الرجال في الصفين المتقابلين اللازمة التي عادة ما تكون: “يا حلالي يا مالي”. ويلفت حسونة النظر إلى أن الباحث الباش يرى امتياز الشعب الفلسطيني بفن التحداية دون أي شعب آخر من بلاد الشام، إذ أضاف إليها وطورها وجعلها تراثًا شعبيًّا مميزًا يحتاج لمجلدات لتوثيقها جميعًا. ويوضح أن الأغاني المرافقة لفن “الدبكة” -وأشهرها: “الدلعونا”، و”الجفرا” و”زريف الطول”- من الأغاني المرافقة لـ”الشروقيات والتحداية”، وكان مطلعها في السابق يقول: ميج ويابو الميج ويابو الميجانا، وقد طور إلى “يا زريف الطول” وهناك المطلوع، والزجل والموشح، فيتشابه المطلوع مع الشروقيات، لكنه يمتاز بالخفة والسرعة والطول، فنجد أن المطلوع قد يصل إلى أكثر من 100 مقطع بمواضيع مختلفة، ولا يلتزم بقافية واحدة، تبعًا لإفادة الكاتب حسونة. مبارزة شعرية ويحتل الزجل المرتبة الثالثة في فضاء الأغنية الشعبية الفلسطينية، وهو نوع من المبارزة الشعرية يقوم بها رجلان غالبًا في الأعراس مستخدمين مفردات بسيطة بمرافقة لحن خفيف، وقد نرى بعضًا من هذه الجلسات وقد استخدم فيها الزجّالون مفردات أكثر تعقيدًا واصفين فيها موضوعًا ما. ووثقت المؤلفة المقدسية ماجدة صبحي أغاني العرس الفلسطيني منذ زمن الاحتلال البريطاني، مرورًا بالنكبة فالنكسة، وصولًا إلى يومنا هذا، في كتابها “زفة وزغرودة يا بنات”. وتبين صبحي أنها وثقت في كتابها كل الأغاني المتعلقة بالعادات والتقاليد الفلسطينية في الأعراس، كأغاني أهل العروس وطلعة العروس وزفة العريس، و”التعاليل” التي تُغنى قبل العرس، وغيرها. وتشتمل أغاني الأعراس – وفقًا لحديثها- على الكثير من المدح للعروسة والعريس وأصلهما ونسبهما، وتشير في الوقت ذاته إلى أن الثورة الفلسطينية على الاحتلال البريطاني أدخلت في وقتٍ لاحق مضامين سياسية على أغاني الأعراس، كمدح الفدائي والملثم و”النجادة” و”الفتوة”، وغيرها من الأحزاب المقاومة للاحتلال.
وتذكر صبحي أن لأغاني الأعراس أسماء مختلفة، منها: “المهاهاة”، و”الشوباشي” وهي أغنية قصيرة فيها مناداة لبث الحماس في الزفة، و”التراويد” وهي أغاني كلها أشجان تُغنى في وداع العروس لبيت أهلها، و”التحنين” الذي تحمل كلماته وداع العروس لأهلها. وتبين أن ما دعاها لتوثيق أغاني الأعراس أنها بدأت تُنسى بعد أن أصبحت الأعراس تُعقد في القاعات بدل البيوت، وأصبحت النساء يعتمدن على “الدي جي” فعزفن عن الغناء بأنفسهن، “فكان لا بد من توثيق تلك الأغاني، وأخذ زمام المبادرة للتوثيق من النساء كبيرات السن حتى لا ينساها الجيل الصغير”. وتؤكد صبحي أن التوثيق يجعل لتلك الأغاني “مرجعًا يحميها من الاندثار كما اندثرت أغاني المواسم الزراعية والدينية وهدهدة الأطفال”، مشيرة إلى عزمها على تسجيل تلك الأغاني صوتيًّا مع بعض النساء، حتى يمكن استعمالها في الأعراس.
المصدر : فلسطين أون لاين .
قم بكتابة اول تعليق