ألقى المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان رسالة شهر محرم الحرام ورأس السنة الهجرية لهذا العام من مكتبه في دار الإفتاء الجعفري. وقال فيها: “عودا على محرم الحرام شهر العزيمة والكرامة، شهر التضحية والإباء، شهر هيهات، شهر لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل؛ ومطابقة على عهد جده الأعظم محمد حينما قال: لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته، نهض الإمام الحسين يوم كانت فيه سلطة أمية مركز العالم وميزان الدنيا، ويوم لم تترك أمية سبيلا لإغراء الحسين إلا واعتمدته، لكنه رفض العمل بالباطل والمساومة على الحق”.
أضاف: “كقضية تاريخية عرض يزيد على الإمام الحسين أن يكون جزءا من أكبر سلطة في العالم، وأن يكون التالي بعد يزيد في وراثة الحكم، فأصر على رفضه، وأبى أن يكون جزءا من زمرة الظلم والاستبداد والفساد، لأن قضيته كانت الكلمة كأساس للسلطة ولبرامج إغاثة الإنسان، فبالكلمة برأ الله الكون، وبالكلمة أخذ الله الميثاق، وبالكلمة عمد الله الخلائق، وبالكلمة استخلف الله الإنسان، وما دون الكلمة يعود إليها؛ فإذا ضاعت الكلمة ضاعت السلطة، وضاعت الناس، وتبعثرت الحقوق، وتحول النظام مزرعة لسلطان غشوم. لذا قال الإمام الحسين: على الإسلام السلام إذا بليت الأمة براع مثل يزيد، وهو شعارنا اليوم، لأننا شعب مظلوم في وطن منهوب، ولأننا في دولة تحتضر عبر أزمة نظام ومشروع حصار دولي إقليمي وضعنا بين خيارين إما الجوع أو الاستسلام. ولكن موقفنا إن شاء الله تعالى ثابت كموقف الإمام الحسين يوم خيروه بين السلة والذلة، فقال: هيهات منا الذلة، فخيارنا وطن وبلد وسيادة وعيش مشترك، وسلم أهلي، ومشروع دولة متماسك رغم كل مرارات هذا الخيار. نعم سنبقى متمسكين بوطنيتنا، وثابتين على شراكتنا الوطنية، وعيشنا المشترك تماما، كشراكة دماء وهب المسيحي مع دماء الإمام الحسين، وزهير العثماني مع حبيب بن مظاهر العلوي، على قاعدة لا للفتنة، لا للعبة الطائفية، لا لتمزيق البلد، لا للفساد بكل أشكاله، لا للاستثمار بالحقد والنكد والمتاريس النفسية، لا للفراغ السياسي، لا للسقوط، لا للتوظيف الدولي الإقليمي بخراب البلد”.
وتابع: “عليه، دعوتنا لتسهيل تأليف الحكومة، وانطلاق الدولة بما يقتضيه الواقع والمنطق، فالأمور وصلت إلى خط اللارجعة، خط إذا تجاوزناه خسرنا الوطن والهوية، دعوتنا لحكومة عيش مشترك تضع حدا للفراغ القاتل، وتعمل على وأد الفتنة، ومنع الفساد والاضطهاد والاحتكار ومحارق الأسعار ولعبة الدولار، ورفع الظلم عن كاهل ناسنا وشعبنا ومشروع دولتنا. فحق شعبنا في العيش بعزة وكرامة وعدالة هو حق مقدس، ومن يشكل جزءا من سياسة مالية أو نقدية أو تجارية أو سياسية أو إعلامية أو أمنية تساهم بخراب البلد فهو خائن لله ولوطنه ولناسه. لهذا نقول: لا للاستسلام السياسي، لا للفتنة الطائفية، لا للحرب الأهلية، لا لمزيد من الانهيار والسقوط، لا للعراقيل ولا للتعطيل ولا لاستعمال الشعارات الفارغة، ولا للتذرع بحقوق هذه الطائفة أو تلك، فلبنان مهدد بالزوال، والخناجر المسمومة تحيطه من كل جانب، فضلا عن أن الأزمة أزمة نظام مهترىء، وحقوق اللبنانيين ليست بوزارة من هنا أو وزارة من هناك، إنما هي بقيام دولة المؤسسات، دولة الأمن المجتمعي، دولة لا زبائنية فيها، ولا طائفية”.
وقال: “في شهر محرم الحرام، تتكلل السنة الهجرية بأعظم دماء وأشرف شهداء، وهو ما تنتهجه المقاومة اليوم عبر ردها بالنار على النار الإسرائيلية، تثبيتا للردع، وتأكيدا للجهوزية، وترسيخا لحقيقة أن سياج هذا الوطن جيشه وشعبه ومقاومته، بعيدا من الكمائن المدبرة التي تكشف بعضا من المشاريع الخارجية، التي تحضر لبلد لا يقبل إلا بأن يكون حرا أبيا بحلته الوطنية وعيشه المشترك وسلمه الأهلي ودولته الجامعة. من هنا أحب أن أتوجه لأخينا في الإنسانية، وشريكنا في الوطن، لغبطة البطريرك الراعي فأقول: القضية قضية وطن كان محتلا، وسيادة كانت مصادرة، يوم تخلى العالم كله عنا، فاستعادته المقاومة وحولته بلدا منيعا، ووطنا مهيبا، تحسب له تل أبيب ألف حساب، وذلك بسبب ما تمتلك المقاومة من ترسانة نوعية وصواريخ دقيقة، وقرار شجاع، شكل ضرورة هذا الوطن ومشروع دولته وسياج استقلاله، وأمنه وأمانه. وهي اليوم أكثر ضرورة لمنع مشاريع الحرب الأهلية، التي يعمل عليها أكثر من طرف دولي وإقليمي بأقنعة مختلفة. ولأن المقاومة ضرورة تحرير وحماية بلد وسيادة واستقلال، لم تحتج إلى تبرير يوم كانت بيروت محتلة، فإنها كذلك اليوم لا تحتاج إلى أي تبرير، لأن سيادة وبقاء هذا البلد يرتبط إلى حد بعيد بأصل وجود المقاومة في لبنان. على أن ضرورة وجودها اليوم هي أكبر وأعظم لأن التهديد أكبر وأعظم”.
أضاف: “أما بخصوص هدنة 1949، فحولها الإسرائيلي أشلاء وخرائط احتلال وحرب أوطان، وهو لا يعترف إلا بمصالحه الدموية وعقليته العدوانية ومشاريعه التوسعية، وهنا السؤال: هل احتلال إسرائيل لجزء من لبنان في العام 1978 ثم غزوه للبنان واحتلاله لعاصمته عام 1982 اعتراف بهدنة أم رقص على أشلائها؟ ثم أين كانت الشرعية حين كانت آلة الحرب الإسرائيلية تسرح وتمرح في المؤسسات الدستورية وتعين وتعزل وتهود كل شيء؟ هل نسينا الأمس القريب، أم تناسينا؟ أم أن هناك مشروعا دوليا إقليميا، وظيفته تبييض إرهاب تل أبيب واحتلالها لفلسطين، ويجب أن يكون لبنان جزءا منه، وعضوا من هويته الجديدة، ولو على أشلاء الرسالات السماوية والمبادىء الدولية. وبالحقيقة، هذا ما يتم العمل عليه وهو أمر لا يمر في لبنان، وستظل إسرائيل كيانا محتلا وعدوا غاصبا، وسنعمل بكل الطاقات والإمكانات لردعها ونزع أنيابها”.
وتابع: “أما قرار السلم والحرب فهو قرار وطن، قبل أن يكون قرار حكومة، وقرار سيادة واستقلال، قبل أن يكون عدد كراس في مجلس وزراء منقسم على نفسه، ولا يملك إمكان مواجهة إسرائيل، لذلك كانت الحكومات المتعاقبة تكتفي بإصدار بيان أو بشجب عدوان، ثم تبكي على جنائز شعبها، لأن هذا أكثر ما تستطيعه أمام عدو غاشم، وهو ما حذر منه فيما مضى الإمام السيد موسى الصدر، وأكدته القوى الوطنية ولا سيما حركة أمل وحزب الله الذين انخرطوا بمعركة إنقاذ الوطن واستعادة الدولة وتحرير البلد وانتزاع السيادة والاستقلال من مخالب وأنياب الإسرائيلي المحتل، وتحقق ذلك بفعل المقاومة، وليس بالبكاء على أطلال مجلس الأمن، ولا بالمؤامرات الدولية، ولا بادعاء الحياد، ولا ببيانات مجلس الوزراء. وما جرى في ثكنة مرجعيون العام 2006 خير دليل، رغم الوجع. على أن الذي يقرر السلم والحرب طيلة سنوات مضت، هي تل أبيب وليس لبنان أو المحيط، وما قامت به المقاومة هو الوقوف في وجه وحشية تل أبيب بخصوص قرار السلم والحرب، ووضع لبنان على سكة دولة قوية مرهوبة الجانب بسبب ترسانة المقاومة، وقدراتها النوعية التي وضعت تل أبيب تحت خط النار”.
وقال: “لذلك، ولأن قرار السلم والحرب منوط بتحرير لبنان وحماية سيادته وتأمين مصالحه واستقلاله، كان هذا سبب وجود المقاومة، وسبب استمرارها، وبخاصة أن هناك من يمنع تسليح الجيش لصالح تل أبيب وهيمنتها في المنطقة، ولن يكون الجيش لا اليوم ولا غدا إلا شريكا للمقاومة، لأن وظيفة الجيش حماية لبنان وضمان سيادته واستقلاله ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وهو بشراكته للمقاومة يقوم بهذه الوظيفة. وهنا أحب أن أؤكد وأقول: إن حكومة غير قادرة على فرض تسعيرة ربطة الخبز أو حماية تنكة البنزين أو المازوت أو تأمين حبة دواء وحليب أطفال، أو تأمين مياه أو ضبط أسعار السلع الغذائية، أو منع احتكار الأسواق، ومنع لعبة الدولار، هي بالأولى ليست قادرة على أخذ قرار بالسلم والحرب بحجم حماية لبنان من وحش يتأهب دائما لابتلاعه، ومجلس الأمن وبيانات التنديد لا تستعيد الأوطان، والتجربة مرة، وهي واضحة عبر التاريخ. بصراحة أكثر، لولا وجود مقاومة قوية وصواريخ استراتيجية لكان لبنان مجرد مستعمرة يمارس فيها الصهيوني كل أنواع الاستعباد والهدم، كما فعل ويفعل في فلسطين والقدس وكنيسة المهد وكنيسة القيامة، وحي الشيخ جراح”.
أضاف: “لذلك فليسمع العالم جيدا: لبنان لن يكون جزءا من تهويد المنطقة، ولن يكون جزءا من الاستسلام ما دامت هناك مقاومة في لبنان، وهي منه كالرأس من الجسد، وإذا كان من أمن وأمان في الجنوب وسائر محافظات لبنان فهو بفضل قوة الردع التي حولتها المقاومة سياج وطن، وسيادة بلد، وضمانة شعب ومؤسسات. العين اليوم على حماية لبنان بكل الأشكال، لأن هناك مشروعا دوليا إقليميا حقيقيا يريد النيل من الداخل اللبناني، ومسؤولية كل الوطنيين في هذا البلد حماية لبنان من خرائط المتاريس الدولية واللعبة الطائفية”.
وتابع: “أتوجه للبنانيين: هذا لبنان بلدنا، والدولة دولتنا، والناس ناسنا، لذلك دعونا نحمل جميعا هم هذا البلد، بعيدا من اللعبة الدولية الإقليمية، وليكن لبنان وسلمه الأهلي وعيشه المشترك أولا، وبخاصة أن التاريخ القريب للحرب الأهلية مر للغاية، ومن جر الفتنة إلى نفسه فقد قتلها. لنكن عائلة وطنية واحدة، ضمن مشروع دولة واحدة، وسط محبة ورحمة واحدة، وقد اختلطت دماء أبنائنا ببعضها البعض لحماية هذا البلد، فلا تضيعوا هذا الوطن، لأن لا بديل لنا منه. آن الأوان لنا لأن نتعظ ونتعلم كيف نحصن بلدنا، وكيف نحافظ عليه ونحميه، وكيف نحكمه”.
وختم قبلان: “من شهادة الإمام الحسين ومدرسته المباركة، تعلموا أيها الساسة والقادة، كيف تكون مواصفات القيادة الشريفة، وكيف تسطر ملاحم الفداء المنزهة عن كل مصلحة مشخصنة، وعن كل غاية فيها الكثير من الرياء والنفاق”.
قم بكتابة اول تعليق