مشروع نهضة المنطقة والإضافة التي قدمتها سيف قدسها لهذا المشروع. (ج1)

ان أعظم إنجازات شعب فلسطين في حربه الأخيرة لم يكن بالتأكيد الإنتصار الميداني الذي تحقق على الصهاينة وكسر شوكتهم وحطم هيبتهم فقط بل كان الإنتصار الأعمق والأكبر أثرا هو ما أبدعته فلسطين من توازن كدنا نظنه مستحيلا وذلك من خلال تشكل جناح ثاني مقاوم يكمل دور الجناح الأول الذي مثلته إيران والذين انتموا إلى مشروعها النهضوي في المنطقة والذين غلب عليهم أنهم من الطائفة الشيعة رغم كل المحاولات والمبادرات التي قامت بها وما زالت تقوم بها إيران من طرح مشاريع وعقد مؤتمرات للوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب وما شاكل وكانت تصطدم هذه الجهود والمحاولات في كل مرة بمشاريع مضادة تقوم بها وتدعمها وترعاها المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج العربي التي تدور في فلكها بتنسيق كبير مع النظام الأميركي والغربي وقد سخرت السعودية اموال طائلة وجهود مضنية لتكريس التفرقة الإسلامية وشجعت التيارات المتشددة التي تعتمد مبدأ التكفير وتسعى لعدم تقبل الآخر وإلغائه كما تسعى لتصوير ان ايران وانصارها في المنطقة هم اكثر خطرا على الإسلام من الصهاينة واميركا ومولت المملكة حروبا كثيرة للقضاء على حركات المقاومة المتعاطفة مع ايران سواء في فلسطين أو لبنان او سوريا او اليمن اوالعراق ومثلت هذه الجهود الهائلة والباهضة التكلفة التي بذلتها المملكة اكبر عامل معيق لمشروع وحدة قوى المقاومة في المنطقة ومؤخر لإنتصارها على أعدائها وهادرا لطاقاتها وثرواتها ومشتتا لجهودها ومعرقلا لأي محاولة للوحدة والتعاون بين طوائفها ومذاهبها وقواها الحية.

 

وقد ثبت بالتجربة أن نواة هذا الجناح الثاني يجب أن تكون حركة مقاومة إسلامية سنية اصيلة ومخلصة ومستقلة القرار تكون قادرة على تحقيق توازن رادع مع عدو الأمة المركزي ومتعاونة ومنفتحة في نفس الوقت على مشروع المقاومة الإسلامية الشيعية الذي تمثل الجمهورية الإسلامية في إيران نواته الصلبة ومصدر إمداده المركزي بالسلاح والخبرات والإمكانات المادية التي يحتاجها لتشغيل وتفعيل مقاومتة بكافة أبعادها وأنواعها العسكرية والتقنية والإجتماعية والسياسية والإعلامية ودعم مجتمعات المقاومة المتنوعة والممتدة على طول وعرض المنطقة إضافة لضرورة دعم مقومات صمود الناس وتمويل وإدارة مشاريع الإعمار التي تحتاجها المنطقة باستمرار نتيجة المواجهات والحروب والمعارك بين الحروب التي يستمر حصولها في أكثر من مكان في منطقتنا.

 

بدون ولادة وانطلاق الجناح الثاني الذي نتحدث عنه والمكمل للجناح الأول لن يكون هناك أي أمل لنهضة شعوب المنطقة وانطلاقتها وخلاصها من التحكم والهيمنة من قبل زعمائها المرتهنين لسياسات دول الهيمنة ومن خلال القوى الغربية المتسلطة والساعية بكل طاقاتها إلى إعاقة وعرقلة أي مشروع نهضوي يطمح إليه سكان هذه المنطقة الشرفاء . كما يطمحون لإستعادة حقوقهم المغتصبة والمنهوبة وكرامتهم المهدورة وأمجادهم العريقة ودورهم الريادي ومساهماتهم الكبرى في المشروع الحضاري الإنساني على إمتداد التاريخ .

 

ولتوضيح هذا الإستنتاج وإدراك أبعاده وتعلقاته وتوضيح الخلفيات التي بني عليها لا بد من استعراض المراحل التي مرت بها مشاريع ومحاولات النهوض في منطقتنا منذ بداية نشأة وولادة إرادة نهضة فيها إضافة لإستعراض أهم العقبات والمعوقات التي إعترضت هذه المشاريع والمحاولات منذ بداياتها وفي كل المراحل اللاحقة التي شهدت في بعضها صعودا وآمالا كبارا وإشراقات واعدة وفي بعضها الأخر اخفاقات وهزائم وانكسارات عميقة إضافة لتوضيح المسارات التي سلكتها مشاريع النهوض وتقلبها بين مشاريع إسلامية ووطنية وقومية وأممية وشيوعية ومتغربة وغيرها منذ بدأ يدب الوهن في جسد الإمبراطورية العثمانية التي تسببت نتيجة قسوة سلطتها وبطشها وإثارتها للفتن الداخلية في منطقتنا الناتجة عن ضيق افقها السياسي والفكري والإنساني الأمر الذي أوصل المنطقة إلى مرحلة شعر فيها الناس بعقم وجود إمكانية تشكيل مشروع نهضة قادر على المواجهة والصمود وتحقيق الإنتصار على الأعداء وعلى المعوقات الداخلية والخارجية وأدخل المنطقة في عصر إنحطاط دام قرون متمادية.

 

لقد مثلت حملة نابليون بوناپارت التي قام بها على مصر عام 1897 حدثا مزلزلا كشف للأتراك ولسكان المنطقة مدى الفجوة العميقة في التطور والقوة والعلوم بين الشرق والغرب لدرجة بدأت معها النخب التركية والعربية تبحث عن أجوبة لأسئلة كبرى مثل ” ما هو سبب تخلف المسلمين وتقدم سواهم ؟” حيث كانت المنطقة لا تعرف منذ فجر الإسلام الأول غير الإسلام نظام حكم لإدارات الدول والإمبراطوريات والممالك المتعاقبة ولو كان كل نوع من انواع الإسلام الذي موري كان يناسب قراءة الحاكمين ومصالحهم وأهواءهم في كل مرحلة من المراحل حيث كان معظم تركيز هؤلاء الزعماء ينصب على تثبيت عروشهم وتدجين وإخضاع المجتمعات والشعوب التي يحكمونها إضافة لتخفيض اسقف توقعات هذه الشعوب من أنظمتها وحكوماتها .

 

ولقد لعبت مصر دورا بارزا من خلال ما قدمه مفكروها ومتنوروها لمشروع النهضة العربية والإسلامية نظرا لمميزات المجتمع المصري وغناه الثقافي ونظرا لتاريخه العريق وتجربة شعبه الحضارية الغنية وتعداد السكان الكبير ، ونظرا لآن الإحتكاك والتحدي الأوروبي الأول للمنطقة الذي تمثل بحملة بوناپارت بدأ من مصر .

 

وسنستعرض فيما يلي تجارب وأفكار اهم الرموز البارزة والمؤثرة في التنظير وبلورة المشروع النهضوي الذي يناسب واقع حال المنطقة في تلك المرحلة وما تلاها وتحديد منطلقات هذا المشروع وتنظيم أولوياته للوصول إليه وتحقيقه في أقصر فترة وإنجاز أنضج تجربة له.

 

* مثلت أفكار الشيخ رفاعت الطهطاوي (1801 – 1873) بناء على توجيهات من أستاذه حسن العطار بداية الطرح النظري لمشروع النهضة العربية الإسلامية بعد زيارة إستكشاف له إلى فرنسا دامت ست سنوات إطلع خلالها على أهم انجازات الحضارة الغربية وما حملته من تطور وتقدم للعلوم والتقنيات ووسائل الحياة وانظمة الإدارة والمال والدولة وكان معجبا إلى درجة الإنبهار بما عاين ورأى ووصل إلى مجموعة خلاصات أهمها:

 

1- طالب الطهطاوي ببذل جهد لتفسير الشريعة بما يلائم حاجات العصر وبذلك فتح باب الإجتهاد المقفل أمام المذاهب الإسلامية السنية لأسباب سياسية تناسب الحكام المتسلطين.

 

2 – يجب ان يشارك الشعب في عملية الحكم ويجب تأهيله لهذه المهمة بناء على تجربة الأنظمة الديمقراطية التي عاينها في رحلته الإستكشافية إلى فرنسا.

 

3- على العلماء أن يتعرفوا على العلوم التي أنتجها الفكر الإنساني ويستفيدوا منها إلى جانب ما جاء به الشرع والدين.

 

4 – أجاز الطهطاوي تفسير الشريعة بإعتماد مذهب غير مذهبه ومثل هذا الموقف قفزة نوعية في تقبل فكر الآخر والإستفادة منه .

 

* مثل جمال الدين الأفغاني أو (الأسد آبادي) (1838-1897) بأفكاره التي طرحها وركز عليها وكان مهجوسا بها ، المدماك الأول في طرح مشروع الوحدة الإسلامية تحت عنوان الجامعة الإسلامية وكان كثير الأسفار وواسع الإطلاع وقدم خدمات بالغة الأهمية لكل من تركيا وإيران والعرب وكان شخصا موسوعيا ومندفعا وعابرا للجنسيات والطوائف وناذرا حياته وفكره والحيوية والمبادرة التي كان يتمتع بها لمشروع وحدة الأمة ونهضتها لذلك تنظر إليه جميع الحركات الإسلامية والمتنورين بأنه رجل مؤسس لمشروع النهضة العربية والإسلامية وكانت همومه وهواجسه تتمحور حول النقاط التالية:

 

1- إن مهمة الدين ليست عبادية فقط بل إن الدور الأساسي للدين هو بناء حياة طيبة للإنسان كفرد وبلورة مشروع مدني حضاري للمجتمع وعلاقات الشعوب فيما بينها أيضا معتمدا على الإلفة والتسامح.

 

2 – كان هاجسه الأساس يكمن في إيجاد طريقة مثلى لإقناع المسلم بضرورة فهم أمور دينه بشكل عميق وشامل يمكنه من تنظيم أمور دنياه وتحقيق التنمية والقوة والإرتقاء والتخلص من الظلم والطغيان والتخلف والجهل.

 

3 – برأي الأفغاني أو (الأسد آبادي) إن ضعف وجهل المسلمين أوهمهم أن تطور الغرب صار عظيما ومرعبا لدرجة يتعذر علينا اللحاق به ومجاراته لذلك فإنهم عندما يستفيقون سيدركون أن عظمة الغرب وقوته وتفوقه ليسوا إلا وهم يمكنهم استيعابه ومواجهته ومجاراته والتغلب عليه أيضا. وتمثل هذه الرؤية لدى الأفغاني عمقا وبعد مدى في استيعاب حقيقة الظواهر بعد تجريدها من عناصر الدهشة والإنبهار وضغط الواقع وعوامل الضعف والجهل المسيطر.

 

4 – الخطوات التي ينبغي اتخاذها لتحقيق النهضة المرجوة للأمة برأي جمال الدين هي (تحقيق عملية تطور إجتماعي يؤدي إلى الرفاه والقوة إضافة للعمل على تطوير مستوى الأفراد ورفع كفاءاتهم وخبراتهم في المجالات العلمية والفكرية والتطبيقية وتعزيز المواهب الخلاقة والفنون والإبداع لديهم).

 

ويبرز الفرق واضحا بينه وين الطهطاوي حيث يمتلك نضجا واستيعابا وتحليلا اشمل واكمل لأسباب تخلف المسلمين وكيفية تخلصهم من هذا التخلف.

 

* كان من تلامذة جمال الدين الشيخ محمد عبده (1849-1905) الذي تابع وبلور أفكار أستاذه وكرس فتح باب الإجتهاد الذي أسس له الطهطاوي وأكد على الأمور التالية :

 

1- لم يأت الإسلام للخلاص الفردي فقط بل جاء أيضا للخلاص المجتمعي وكانت هذه الفكرة من إبداعات الكاردينال الفرنسي ريشيليو (1585-1642) ولا نعلم إن كان محمد عبده إبتدعها أم إقتبسها من ريشليو .

 

2 – حاول تحديد الصفات التي يجب حفظها والتأكيد عليها في المجتمع الإسلامي أثناء عملية التغيير والتطور المطلوبين لتحقيق مشروع النهضة ليبقى المجتمع محافظا على هويته الإسلامية ولا يفقدها .

 

3 – إن تفسير الشريعة ليس أمرا ثابتا وجامدا بل عليه ليكون ناجحا ومؤديا لوظيفته أن يتلاءم مع حاجات الأفراد والمجتمعات بما يناسب ظروف زمانهم ومكانهم والمشكلات التي يعانون منها مع مراعاة منطلقات الشريعة وثوابتها.

 

* بعد محمد عبده مثل رشيد رضا (1865 – 1935) مواليد طرابلس لبنان التلميذ المتابع لأستاذه محمد عبده ومن جملة أفكاره التالي :

 

1- كان متأثرا بتعاليم إبن تيمية وبكتاب إحياء علوم الدين للغزالي وكان محبا للوهابية وتعاليمها وأفكارها وله مواقف قاسية وحاسمة من التصوف والمدارس الصوفية حيث كان يقول “دخل التصوف الإسلام لإفساد دين العرب وتقويض دعائم ملكهم بالشقاق الداخلي لتمكين الجماعات الصوفية من إعادة ملك المجوس وسلطان دينهم الذين أزالهما العرب بالإسلام).

 

2 – دعى رشيد رضا إلى توحيد المذاهب الإسلامية الأربعة لتصبح مذهبا واحدا فتكتسب منعة وقوة بإتحادها وهذه الفكرة تعتبر دفعا نوعيا لمشروع الوحدة الإسلامية ولا شك أن أفكار رشيد رضا ساهمت في بلورة مشروع حركة الإخوان المسلمين إضافة لإجتهادات حسن البنا (1906-1949) مؤسس الحركة وسيد قطب (1906- 1966) المنظر الأسلامي البارز في عصره. ويلاحظ في الأفكار التي يطرحها مدى تأثره بالوهابية المتعصبة للإسلام العربي ما يلاحظ تأثره بآراء الغزالي المعادية للفلسفة والتصوف على عكس الإسلام الشيعي الإيراني الداعي الى تعزيز دور الفلسفة في الفكر الإنساني وبناء المعرفة.

 

ويلاحظ المتتبع لأفكار المؤسسين والمنظرين لمشروع النهضة العربية والإسلامية تغييبهم لعامل مهم يشكل طليعة عوامل الإعاقة لنهضة وتقدم الأمة العربية والإسلامية وهو المشروع الإستعماري الغربي المتمثل بالهيمنة على أي فكرة أو خطة أوحركة نهضوية داخل العالم الإسلامي ووأدها في المهد قبل أن تشكل نموذجا يحتذى لشعوب المنطقة أو استباق أي فكرة تحرر ممكنة حتى لا تشكل نواة قابلة للتفتح وتشكيل مصدر إلهام وتحفيز لغيرها في مناطق جغرافية أخرى وقد مثل وعد بلفور وإتفاقية سايكس بيكو لتقسيم العالم العربي التجلي الأبرز لهذا المشروع الإستعماري الغربي المتلبس بلبوس جديد ومغطى بشرعية دولية مصادرة القرار والإرادة الفاعلة المؤثرة من قبل قوى الهيمنة والتسلط العالمية التي كانت قادرة أيضا على توظيف حركات إسلامية قوية ماديا بفعل مال النفط العربي كما هو الحال مع الحركة الوهابية في المملكة العربية السعودية التي تحولت إلى أداة في يد الدول الغربية لمواجهة أي مشروع نهضوي تحرري ووقفت في وجه عبد الناصر وفي وجه الثورة الفلسطينية وفي وجه مشاريع المقاومة للإحتلال الصهيوني بكل طاقاتها ومالها وإمكاناتها وإعلامها .

 

وقد كان مدعاة للدهشة وجود انصار لمشروع النهضة الإسلامية الذي كان مركزه مصر من قبل مجموعة من المفكرين المسيحيين اللبنانيين المتمصرنين أمثال (جرجي زيدان -فرنسيس مراش – فارس الشدياق – شبلي شميل وفرح أنطون) وقد دخل هؤلاء وناصروا مشروع النهضة الإسلامية وابدو إعجابهم به وتمكنوا من استخدامه كمنصة لتمرير أفكارهم ونظرتهم الخاصة بكيفية تحقيق النهضة المرجوة والتي وصلت في نهاية المطاف خاصة مع شبلي شميل وفرح أنطون إلى طرح مشروع قائم على أساس وطني علماني يؤمن بفصل تام بين الدين الذي ملاكه القلب والمشاعر والأحاسيس والأخلاق كما زعموا والعلم الذي ملاكه العقل والتطور والإختراعات وإدارة شؤون الحياة واكتشاف العالم. وكان طه حسين ينتمي إلى هذه المدرسة نتيجة تأثره بكتابات دركهايم ورنان وكانت وأناتول فرانس ويعتقد بقوة بأن سبب تقدم الغرب الأساسي هو فصله الحاسم بين الدين والدولة.

 

مثلت أفكار المنظرين والمفكرين الطامحين الى مشروع نهضة إسلامي عربي أرضية لكل التجارب ومحاولات النهوض التي حصلت في القرن العشرين في العالم العربي من حركة الإخوان المسلمين في كل من مصر وسوريا إلى الحركة القومية العربية بقيادة جمال عبد الناصر وتجربة حزب البعث العربي في كل من سوريا والعراق وحركات التنظيمات المتأثرة بالنظام الإشتراكي الذي مثل قطبه الإتحاد السوفياتي وحركة الحزب القومي السوري الإجتماعي ومشروع الهلال السوري الخصيب الذي يمثل وحدة جغرافية حضارية تاريخية قابلة للإنبعاث والتجدد وقد حصلت الغلبة للحركات القومية العربية والحركات الوطنية في التصدي للمشروع النهضوي الإنبعاثي للأمة وأنكفأت الحركات الإسلامية خاصة بعد الهزيمة التي منيت بها حركة الإخوان المسلمين في مصر حيث تم تصفية قياداتها ومحاصرتها وتعطيل دورها مع بداية محاولاتها في الإنقلاب على السلطة الحاكمة نظرا لاعتبارها أن هذه الخطوة تمثل أولوية في مشروعها النهضوي لأنها لم تكن تؤمن بالشراكة مع قوى التحرر الأخرى وتريد سيطرة مطلقة للمشروع الإسلامي المنقذ الوحيد للأمة برأيها من واقعها المتردي والمتخلف . الأمر الذي أوقعها في أزمة وجودية وفي اضطرار الى ممارسة العمل السري المتطرف ضد أنظمتها والى الغرق في تبني طروحات متطرفة تزيد عزلتها وعدم مقبوليتها دوليا إضافة لإضطرارها لنسج علاقات مع أنظمة هيمنة تمكنت من توظيف حركة الإخوان المسلمين وما نتج عنها لاحقا من تنظيمات مثل القاعدة وطالبان وداعش والجهاد الإسلامي وجبهة النصرة وتحولت هذه الحركات الجهادية الإسلامية المنشأ إلى أدوات بيد أجهزة أمنية دولية وعربية وظفتها في حروب وصراعات أبعد ما تكون عن مشروع النهصة الذي كان سبب نشوئها فقاتلت ضد الغزو السوفياتي لأفغانيسان وقاتلت في الجزائر بطريقة دمرت البلاد والعباد بأسلوب إنتحاري أبعد مايكون عن العقل معتمدة أفكار التكفير والإلغاء ومتجنبة أي صراع يغضب مموليها وموظفيها ومروجي أفكارها.

 

ولاحقا وظفت هذه الحركات المسماة جهادية في تفتيت الدول ونشر الفوضى والرعب في ليبيا والسودان وسوريا والعراق ولبنان واليمن .

 

وكانت تجربة مشروع النهضة العربية على أساس قومي الذي استطاع لفترة من تحييد التجارب النهضوية الإسلامية عن المسرح السياسي وعن المشاركة الفاعلة وكانت تجربة جمال عبد الناصر طموحة وتمكنت من إستقطاب غالبية الشارع العربي بمكوناته المختلفة وتمكنت من إنجاز نواة مشروع وحدة عربية بين مصر وسوريا لم يدم طويلا ولكنها واجهت عقبات كبيرة تمثلت بدعم شبه مطلق من الحلف الأطلسي لإسرائيل التي إغتصبت فلسطين وانتجت نكبة هائلة للشعب الفلسطيني وصدمة كبرى للشعب العربي الساعي للنهوض. وتمكنت من إستنزاف طاقاته وموارده وتيئيسه من أمل النهضة المنتظر بعد نكسة حزيران1967 وبعد إجتياح لبنان 1982 وبعد هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية وإخراجها من لبنان إلى تونس وفرض الحلول المذلة على الشعب الفلسطيني وبعد تآمر جزء كبير من الأنظمة العربية لا سيما الخليجية منها مع اميركا والغرب على مشروع النهضة ورموزه وقيادته لأن هذه الأنظمة مرتهنة للقوى التي أوصلت زعماءها إلى كرسي الحكم وأمسكت بأعناق هؤلاء الزعماء لإلزامهم على تنفيذ خططها ومؤامراتها وإلا فإن مصيرهم سيكون خلعهم عن عروشهم في حال لم ينفذوا ما يطلب منهم.

 

في العام 1947حصلت مبادرة تأسيسية لمشروع وحدة إسلامية بين الأزهر الشريف برئاسة الشيخ محمود شلتوت والسيد البروجردي زعيم الحوزة العلمية في قم المقدسة وأنشىء يومها ما سمي بدار التقريب بين المذاهب الإسلامية وصدرت مجلة “رسالة الإسلام “كتب فيها كبار علماء الفريقين وأصدر في تلك المرحلة الشيخ محمود شلتوت فتواه الشهيرة التي نصت على :”إن الإسلام لا يوجب على أحد إتباع مذهب معين وأن لكل مسلم الحق في تقليد أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلا صحيحا والمدونة أحكامها الخاصة وبالتالي بجوز التعبد بالمذهب الشيعي الجعفري (الإمامي) شرعا كسائر مذاهب أهل السنة”.

 

انتجت على أثر هذه الفتوى موسوعة فقهية إعتمدت عل آراء المذاهب الثمانية ( السنية الأربعة – الجعفري – الزيدي – الأباضي والظاهري).

 

كان ما سبق استعراض ملخص لتاريخ مشروع نهضة المنطقة العربية وأهم المنظرين له والعاملين على تحقيقه على أرض الواقع وأهم العراقيل والمعوقات التي واجهته والذي يظهر فيه بوضوح أن الإسلام الحركي الساعي للنهضة في العالم العربي كانت الطائفة السنية تمثل عاموده الفقري ونتيجة الأسلوب الذي إعتمدته لم يتح لها الفرصة بإنتاج تجربة ناجحة يبنى عليها وتركت الساحة للتجربة القومية التي كانت مشتتة عدة تيارات ولم تجد صيغ تعاون فيما بينها وحصل تآمر داخلي وخارجي عليها أدى إلى فشل مشروعها وانهزامه وكانت الطائفة الشيعية العربية بمجمل فرقها عاجزة عن إنتاج مشروع إسلامي يقوده علماؤها ولم تكن الفتاوى تسمح بدخول المتدينين في مؤسسات الدولة وخاصة في المؤسسات الأمنية والعسكرية الأمر الذي أدى إلى عزلتها وتحييدها عن التأثير في مجريات الأحداث وانتسب شبابها ومثقفوها ومتنوروها الى الأحزاب والتيارات القومية والشيوعية والوطنية وغيرهم وتمت تصفية السيد محمد باقر الصدر أحد أهم المنظرين الإسلاميين الشيعة في عصره على يد النظام البعثي العراقي الذي لم يكن يتحمل الشراكة الوطنية مع الحركة الإسلامية النشيطة والممتدة داخل المجتمع وكان السيد الشهيد الصدر يؤسس لمشروع نهضوي وتوعوي للأمة وذلك من خلال ما انتجه من مؤلفات وأفكار كانت تمثل اجوبة يبحث عنها جيل الشباب بلهفة وعطش وحماس ومن خلال تنظيم سياسي هو حزب الدعوة الذي كان منفتحا على أجواء الوحدة الإسلامية إيمانا منه أن أي مشروع نهضوي إسلامي في المنطقة لن يكتب له النجاح إلا إذا نهض بالتعاون بين جناحيه الشيعي والسني وقد مثل الأسلوب المأساوي الذي مورس مع السيد الصدر ومع قادة حزب الدعوة إلى صدمة مهولة للتيار الإسلامي الواعد في العراق وشرد القوى المؤمنة الحية التي لجأ قسم لا يستهان به منها الى الجمهورية الإسلامية الفتية وراح يعيد تنظيم صفوفه وينتظر الفرصة السانحة ليستعيد دوره في العمل السياسي في العراق والمنطقة.

 

شيعة لبنان في بداية النصف الثاني من القرن العشرين كانوا على موعد مع مشروع يجمع شملهم ويوحد صفوفهم ويلملم تشتتهم ويشعرهم بهويتهم وبخصوصيتهم في لبنان وقد لعب السيد موسى الصدر الآتي من إيران بناء على دعوة من السيد عبد الحسين شرف الدين ليقود مشروع نهضة الطائفة في لبنان بعده وكان السيد موسى الصدر رجلا عميق الثقافة وبعيد المدى ومنفتح بشكل صادم للواقع القائم على الطوائف الأخرى بمسيحييها ومسلميها السنة وغيرهم وقد تمكن بمشاركة رفيق دربه الشهيد مصطفى شمران أن يؤسسا نواة مشروع مقاومة للعدو الصهيوني في جنوب لبنان وانشاء معسكرات تدريب في البقاع لهذه الغاية وكان السيد موسى الصدر متعاطفا إلى حد كبير مع القضية الفلسطينية ومطالبا بالعمل الدؤوب على تحرير القدس وفلسطين مهما بلغت التضحيات . وعمل السيد الصدر خلال تجربته في لبنان على إيجاد صيغ تعاون وتنسيق وتكامل بين الأحزاب والقوى الوطنية وبين الدول العربية فيما بينها أيضا وذلك من خلال تواصله وتنسيقه الدائمين معهم لتقريب وجهات النظر وتذليل العقبات وتوحيد الجهود وإزالة أسباب سوء الفهم التي كانت تحصل.

 

في الحلقة القادمة سنقوم باستعراض مختصر لمشروع النهضة وإرهاصاته في إيران مع تسليط الضوء على أهم رموز النهضة الذين كانت لهم بصماتهم وتأثيرهم الذي ساهم في تشكل هذا المشروع وأوصله إلى ما وصل إليه كما سنشرح أهم نقاط الإلتقاء ونقاط الإختلاف بين مشروعي النهضة العربي والإيراني وأين التقيا واين افترقا وأين تكمن أسباب الإلتقاء وأسباب الإفتراق.

 

والأمل المعقود على تجربة الفلسطينيين الجديدة المتناغمة مع حركات المقاومة المدعومة من إيران في المنطقة.

 

عدنان إبراهيم سمور.

باحث عن الحقيقة.

27/05/2021

تابعنا على فيسبوك 

 

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن