كتب الزميل حبيب عزّ الدّين في الميادين.نت :
انتظر التاريخ طويلاً حتّى شاخَ وهلكَ، ولم تهلك هذه السّكّين.
الآن الآن وليس غداً، فلتسقط على سنّ السكّينِ أوهامُهم. الآن الآن وليس غداً، فلترتقي فلسطينُ بمحمد أبو سليمة وعمر أبو عصب ونفوز حماد وبالسابقين واللاحقين، في قائمةٍ طويلةٍ من فدائيين وفدائيّات، ما توقّف عدّادها بين أسبوعٍ وآخر، وكأنّ الشعبَ الفلسطيني، وسْط ظلمة التطبيع والخيانة التي طال أمدُها ونفذ الصبرُ عليها، اتّخذ قرارَه النهائي الآن، وليس غداً، أن تقرعَ السكّين أجراس العودة. في هذه السكّين، سرٌّ من أسرار الإنسان.
على مرّ التاريخ الفلسطيني، تجرّدت السكّين من معدنِها، نبذُت صدأها، وأضحت طفلاً، في ربيع العمر، يلد كلّ يوم، يمسحُ الدم والتّراب عن غدِه ومستقبلِه.
أثبتت اللهفةُ على عمليات الطعن، أنّ الصواريخ والمدرعّات ومختلف أنواع البنادق والرصاص، لم تُغنِ أهمّية مدياتِها المؤثّرة، عن الرّوح التي تمنحها السّكين للإنسان. فأن تفدي الأرض بروحك ومالك وملككَ وحياتك، يعني أن تحكم طعنتَك، رغم علمكَ بأنك مقتولٌ أو مأسورٌ لا محال، ثم تُقابل ذلك بثغرٍ مبتسم، وخطواتٍ واثقة، مؤمناً، بأن القيود التي كبّلت يديك، إنّما تُعانقُك حُبّاً، وتُكبّل المحتلّ متوعّدةً.
هذه هي روح فلسطين، التي يؤمنُ بها آمل، ويهزءُ بها بائس. فبقيَت السّكين، طفلاً لا يتغيّر، ولا يكبر، يخرج من داخلها كلّما اشتدّ الوطيس، واحتدم القتال وتكاثرَ الأشرار، عندما يبرزُ إلى النزال لا ينظرُ إلى الوراء، يمضي، ليطعنَ، قبل أن يضع في باطن الأرض دماءَه، ورثةً لكل الأطفال.
في هذه السّكين إذاً، طفلٌ مُسنّنٌ لم يمت، هِبَةٌ عبر التاريخ لأجيالٍ وأجيال، مدّت في أعمارِها قصصُ أجدادهِا، واستمدّت عيونُها من عيونِ آبائِها النظرَةَ إلى الحياة الابديّة، ومن عرقِ جبينِهم الإيمانَ بالأرض، والهويّة، والإنسان.
أجيالٌ وأجيالٌ وأجيال، عربيّةٌ فلسطينية، وُلدَت خلال هبّةٍ، أو بين هبّةٍ وأخرى، عرفَت الاحتلال منذ ولادتها، فلم تأنس غير السكّين، رفيقاً، جليساً، حارساً، قبل أن تكون سلاحاً.
هذا ما تترجمه عمليات الطعن التي ينفذها الصغير قبل الكبير، وتلامذة المدرسة قبل المقاتلين، وطبعاً، دعوناً نقف احتراماً وإجلالاً هنا أمام كلّ فدائيّ قدّم روحه عن مسافة قريبة بسلاح فرديّ خفيف، حتّى لو لم يكن سكّيناً، ولكن في السّكين حكمةٌ ودرسٌ وسُنّة، تستوقفُ العربيّ، في زمن التخاذل.
وُلدَت الأجيال والأجيال، والسّكّين حاضرةٌ، في كلّ غرفةٍ، في كلّ درجٍ وعلى كل رفّ، تفيحُ من حديدِها المُسنّنِ رائحةُ الغضب، والعنفوان، والحب، والأمان، والحرب، والسّلام، يراقبُ التاريخُ صلاحيّتها، ويبحثُ التراثُ في مضمونها، في مكوناتها، في مرادفاتِ اسمها ومعناها، في شكلِها ونقشتِها ولونها.
انتظرَ التاريخُ طويلاً، حتّى شاخَ وهلكَ، ولم تهلك هذه السّكّين، فدوّن التراث ما يلي: هذه ثورة، مضمونها حياة، مكوناتها غضب وحب وعنفوان وأمان وحرب وسلام، مرادفاتها اسمُ كلّ فلسطينيٍّ حرّ، معناها القدس لنا، شكلها فلسطين، نقشتها جبال فلسطين، لونها تراب فلسطين، أمّا عمرها، موتُ التاريخ.
فلتُقرعُ أجراس كنيسة القيامة، ولتُكبّر مآذن القدس، ولتُشرّع أبواب فلسطين أمام المُهنّئين بالنّصر، ولتُحفر على جدار البُراق، حكاية الثورة على تهويد الهويّة، وصهينة العروبة، ولتُكتب تفاصيل قصّة 15 شهر آب/أغسطس 1929، عندما ثار بركان الغضب العربي على أولى خطوات مهّدت للاحتلال، حين أحكم الفلسطينيون صرختَهم، وبالنّار والخنجر، سحقوا عشرات الاسرائيليين الذين احتشدوا تحت شعار “القدس لنا”.
منذ بدايات القرن العشرين، التاريخُ في فلسطين إرادةٌ وليس أيّاماً وأشهراً، والسلاحُ تراثٌ وليس أداة. الآن الآن وليس غداً، فلتسقط “إسرائيل”، في جنين، ويافا، والقدس، والخليل، وبيت لحم، ورام الله، وحيثُ كل طعنة سكّين.
قم بكتابة اول تعليق