كتب الصحفي غسان سعود مقالاً في الميادين حمل عنوان ” مع الباخرة في نصف الطريق” ، أوضح من خلاله خسارة تيار المستقبل و القوات اللبنانية و كل الأدوات السعودية الأميركية المحلية، أوراقهم عشية الانتخابات النيابية أمام ناخبيهم ، في مقابل خطوات مدروسة جاءت في التوقيت المناسب من قبل حزب الله عبر تأمين الدعم للشعب اللبناني كله بداية من المواد الغذائية ثم الأوكسيجين إلى الضغط لتحريك ملف استجار النفط العراقي وصولاً إلى سفن النفط الإيرانية و هي لائحة ستطول لأن العروضات الإيرانية و الروسية أيضاَ لم تنته بعد و قد تمتد لأكثر من ذلك وفق ما اعلنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير.
نص المقال :
إذا كان البعض قد جعل من الفراغ مشروعاً للبلد، فإن مشروعاً آخر سيتقدم لملئه، مستفيداً من كلّ معادلات الردع البرية والبحرية والجوية.
مع قطع السفينة نصف المسافة البحرية باتجاه لبنان، يكون “حزب الله” قد قطع نصف الطريق نحو قلب المعادلة التي تحاول الولايات المتحدة والسعودية تكريسها. وبدلاً من أن يكون الحزب هو أساس المشكلة الماليّة والمعيشيّة والخدماتيّة التي يعانيها اللبنانيون، ها هو يقدّم نفسه كأساس للحلول.
عملياً، بدأت واشنطن منذ أكثر من 10 سنوات بتجفيف منابع الأموال بالنسبة إلى المصارف اللبنانية؛ العمود الفقري للنظام الاقتصادي اللبناني الراحل. وبموازاة الضخ المنظم للنازحين السوريين من دون أية مراعاة للاقتصاد اللبنانيّ، أقفلت الحدود البرية أمام الشاحنات اللبنانية، قبل أن يصدر القرار الشهير بمنع دخول المنتجات الزراعية اللبنانية إلى السعودية.
ومع الفيتوات على استجرار الغاز من مصر، كان هناك من يمنع عن سابق تصور وتصميم بناء معامل حديثة للكهرباء، في ظل استنزاف أمني عبر جيوب تكفيرية متعددة، وافتعال أزمات أمنية طويلة الأمد، سواء في طرابلس أو صيدا أو جرد عرسال، بحيث يصنف البلد عالمياً غير مستقرّ، إضافةً إلى العوائق المفتعلة الكثيرة لتأخير العمل بملفّ النفط اللبنانيّ، في وقت كان الإعلام اللبنانيّ المموّل من الولايات المتحدة يصرخ أنَّ البلد مزبلة كبيرة لا يفترض بأحد التفكير في زيارته.
وإذا صدف أن سجلت إيجابية ما، سواء زراعية أو صناعية أو استشفائية (وليس سياسية)، كان جيش من المتهكمين سيستنفر للاستهزاء بهذه الإيجابية وتسخيف من يتحدث عنها، إذ يمنع أن تقول عن أي شيء لبناني إنه جميل أو مفيد، كما يمنع القول إن البلدان في مختلف أصقاع العالم تستقطب في لحظات الانهيار السياح، وتنشط فيها السياحة. وإذا فكرت إحدى الدول (مثل قطر أو الكويت) في مساعدة لبنان، يطرأ ما يسحب الفكرة بسرعة من التداول.
قبل 17 تشرين الأول/أكتوبر، لم يكن ممكناً التصديق أن سعد الحريري يتجاهل بالكامل إصلاحات “سيدر”، رغم الإلحاح العونيّ، عن سابق تصور وتصميم. لم يكن ممكناً التصديق أنه يتجاهل خطة النفايات الموافق عليها من جميع المعنيين في الداخل والخارج عن سابق تصور وتصميم. كان وزير الخارجية في حكومته جبران باسيل يزوره ليلاً لوضع اللمسات الأخيرة على خطة الكهرباء، ويغادر متأكداً أنها سلكت أخيراً طريق التنفيذ، ليفاجأ عند استيقاظ الحريري ظهراً أن كلام الليل محاه النهار عن سابق تصور وتصميم. وحتى بُعيد 17 تشرين الأول/أكتوبر، رغم وضوح “داتا الاتصالات” بالنسبة إلى “حزب الله” قبيل إعلان الحريري استقالته الشهيرة، ورغم الجزم العونيّ، فإن الحزب بقي متردداً في التصديق أن الحريري جزء لا يتجزأ من كل ما يحصل عن سابق تصور وتصميم.
وعن سابق تصور وتصميم، كانت أدوات الولايات المتحدة الإعلامية والناشطون يهتفون “كلهم يعني كلهم” حين يتعلق الأمر بالمنظومة الحريرية، متجنبين تسميتهم بالاسم، ويهدرون بالاسم حين يكون المستهدف هو “التيار الوطني الحر” أو “حزب الله”. حين يتعلق الأمر بالتيار أو الحزب، يظهر فجور ما بعده فجور. أما حين يتعلق الأمر بأي مكون آخر، فيعم الهدوء وترفع راية “كلهم يعني كلهم”. عن سابق تصور وتصميم، لا يتوقف أحد من إعلاميي “الثورة” ونشطائها عند أي من الهيئات والمجالس والصناديق وكل رجالات المنظومة وحيتانها، حتى في قطاع الطاقة والمشتقات النفطية، ليركزوا في المقابل على جبران باسيل فقط.
وما كاد هؤلاء يعتقدون أنّهم انتهوا من جبران باسيل بعد بضعة أشهر من 17 تشرين الأول/أكتوبر، حتى تركز الجهد الأميركي – السعوديّ على القول إنّ كلّ ما يتخبّط به لبنان لا يتعلّق باستراتيجية الديون الحريرية أو استراتيجية تثبيت العملة التي اعتمدها رياض سلامة أو الفساد أو منظومة المحتكرين التي تراكم الثروات منذ الاستقلال بعيداً عن الأنظار أو الخطوط المذهبية الحمراء أو نظام المحاصصة، إذ يذهب النصف زائد واحد إلى تيار “المستقبل”، إنما السبب وراء كل ما يتخبَّط به لبنان هو “حزب الله”، تماماً كما نشطوا في إقناع الرأي العام بأن “التيار الوطني الحر”، الذي طالب أكثر من 35 مرة على طاولة مجلس الوزراء ببناء معامل لإنتاج الكهرباء، يتحمل مسؤولية انقطاع الكهرباء، فيما الأكثرية التي عارضته و”ما خلّته” أن يبني المعامل، إنما هي نزيهة وشريفة، وفي أسوأ الحالات مثلها مثله.
لقد نشطوا لإقناع الرأي العام بأن “حزب الله” (الذي يضخ كمية شهرية هائلة من الدولارات في السوق اللبناني)، لا سلامة والمصارف اللبنانية – الأميركية، هو سبب انقطاع الدولار من السوق المحلي. قالوا للمواطنين في تلك المرحلة إنّ الدولارات مقطوعة من السوق، لأن “حزب الله” يجمعها كل مساء من ماكينات المصارف ويرسلها إلى سوريا. كانت تلك أوَّل الأكاذيب، وسرعان ما كرَّت السبحة:
“حزب الله” سبب إحجام الخليجيين والألمان والأستراليين والكنديين عن الاصطياف في الربوع اللبنانية، لا البناء السيئ للقطاع السياحي اللبناني بأسعاره الغبية وخدماته المتشاوفة. “حزب الله” سبب إقفال السعودية أبوابها في وجه ما تبقى من منتوجات زراعية، لا العقلية السعودية الانتقامية. “حزب الله” سبب الفساد، لا من يتعاقب على رئاسة مجلس الوزراء بكل ما تمثله من مؤسسات ومجالس وهيئات وصناديق رديفة للوزارات ومتقدمة عليها من حيث الصلاحيات. “حزب الله” يثبت النظام الفاسد، ويمنع الجماهير العظيمة من إطاحته، فيما المس برياض سلامة، رمز رموز هذا النظام، يقابل بتحريك الأساطيل البحرية الأميركية.
“حزب الله” هو من استقدم الأمونيوم وخزّنه، لا من كان يدعم الثورة بفصائلها التكفيرية المعروفة باستخدامها للأمونيوم في تصنيع العبوات. “حزب الله” هو من يقطع المحروقات من السوق لا خزانات “صقر القوات اللبنانية” وقوافل التهريب الخاصة بنواب “المستقبل” في عكار. “حزب الله” سبب انقطاع حليب الأطفال والدواء، لا كبار المحتكرين الذين يمثلون حجر الزاوية في بناء نظامهم. “حزب الله” مسؤول عن كل شيء، كانوا يريدون القول. وقد وُضع جيش هائل في خدمة هذا المشروع: تلفزيونات وإذاعات وصحف ومواقع إلكترونية وناشطون وناشطات لا يريدون المناقشة في أي تفصيل، إنما يرددون ببغائياً كل ما سبق وأكثر بشكل متكرر ومكثف، على أمل أن يعلق شيء ما من هذه الأكاذيب.
في المقابل، أخذ “حزب الله” كل الوقت اللازم ليتأكد أنهم يطبقون مبدأ “الأرض المحروقة”، بحيث يضحون بحلفائهم للنيل من خصومهم، وكان يتبين يوماً بعد يوم أن رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع مثلاً لن يمانع بخسارة كل أنصار الحزب جنى عمرهم المودع في المصارف اللبنانية، لمجرّد أن يقول لهم بكلّ بساطة إنَّ “حزب الله” (والعهد) هو المسؤول، وهو سيتفرج مبتسماً على الأطفال يموتون من دون دواء، لمجرد القول لهم أيضاً إنّ الحزب (والعهد) هو المسؤول، وسيسرّ سروراً عظيماً بأن يكرر الإهمال تفجير بيروت ألف مرة ومرة، ليقول للأهالي المنكوبين إنه “حزب الله” أيضاً وأيضاً.
وبموازاته، ستقف السفيرة الأميركية متفرجة على انهيار القطاع المصرفي، وعلى المؤسسات الأمنية والاستقرار الهش وكل الاستثمارات الأميركية التي كبدت الشعب الأميركي مليارات الدولارات، لمجرد القول للبنانيين إن “حزب الله” هو المسؤول. حاسبوه في الانتخابات النيابية المقبلة، وإذا نجحتم سنبحث مع السعودية في منحكم بعض الديون الإضافية. وفي لحظة اكتمال الصورة في رؤوس اللبنانيين، آثر الحزب التحرك: سأستنجد بأصدقائي حول العالم لمساعدة جميع اللبنانيين من دون أي مقابل، سواء بتأمين الغذاء أو الدواء أو المازوت والبنزين والكهرباء.
التوقيت مهم، والشكل مهم أيضاً، لكن الأهم هو المضمون: مضمون متماسك جداً في مواجهة قرار أميركي – سعودي حاسم بعدم تقديم أي مساعدة للشعب اللبناني. ولا بدّ هنا من التمعن في المشهد أكثر كما يراه المواطن اللبناني: ليست المساعدة ممنوعة فحسب، إنما التدقيق الجنائي ممنوع. استعادة الأموال المحولة إلى الخارج ممنوعة. اجتماع حكومة تصريف الأعمال ممنوع. إبطاء أو تعطيل رفع الدعم ممنوع. ضخ المصارف بعض الدولارات في السوق المحلي ممنوع. التصدير ممنوع. التواصل الرسمي مع سوريا، سواء في ما يخص اللاجئين أو التصدير أو ضبط التهريب ممنوع. تشكيل حكومة ممنوع، وكل ما من شأنه إنعاش البلد أو التخفيف عن المواطن بأي شكل ممنوع.
وبموازاة كل هذه الموانع، كانت الماكينة الأميركية – السعودية تستنفر كل قدراتها للاستهزاء بمبدأ الحصار، فلا شيء ممنوع، لكنه نظام عاجز ولا يتحمل أحد أية مسؤولية سوى “حزب الله”، مع العلم أن هذه الماكينة تعمل بوسائل وأدوات مختلفة؛ بعضها تقليديّ وبعضها جديد، بعضها ليبرالي وبعضها يساري، البعض قديم بعدائه لـ”حزب الله” والبعض الآخر جديد.
هنا، تحرّك الحزب. الخطوة الأولى كانت تأمين خط بري لإيصال المواد الغذائية التي تُخزن حيث يجب. الخطوة الثانية كانت التواصل مع سوريا لتأمين ما يمكن تأمينه منها عند الضرورة. وما بدأ في “الأوكسجين” سيستكمل بكل ما تستعد مصانع الدواء السورية لإعادة تصنيعه. الخطوة الثالثة كانت تكثيف الضغوط على الحكومة العراقية لتجاوز الفيتوات لجهة التعاون مع لبنان. أما الخطوة الرابعة، فكانت الإعلان عن إبحار السفن المحملة بالنفط الإيراني صوب لبنان. وقد تزامن هذا كله مع رسائل واضحة لمن يعنيهم الأمر بشأن طريق الجنوب بكل ما تمثله من استنزاف وقح لأعصاب الجنوبيين.
فجأة، نرى أنّ السفيرة الأميركية تتسرّع كثيراً بعد سماعها الأمين العام لـ”حزب الله”، فتنسف كل فرضية عدم وجود حصار أميركي، عبر التأكيد أنَّ إدارتها ستسمح باستجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن، ومن يسمح اليوم هو من كان يمنع أمس. أما الهفوة الثانية، فهي وقوعها في فخ الظهور بمظهر المنافس لـ”حزب الله”، الذي يقدم للشعب اللبناني شيئاً عمليّاً، فيما تحاول هي أن تبيعهم وهم استجرار الغاز عبر سوريا التي لا تجمعها بها أية علاقات، لا بل تشنّ عليها حرباً اقتصادية مجرمة، وتحتل أرضها، وتنهب خيراتها.
واللافت هنا أنَّ السفيرة تقول بخطوتها هذه للبنانيين إنَّ الممر الوحيد للتخفيف عنكم عند الشدائد ليس إلا سوريا التي نحرّضكم عليها. وعند التدقيق أكثر، سيتبين أن الفضل في اتفاقية استيراد الغاز المصري يعود إلى الوزير العوني السابق سيزار أبو خليل، الذي واصل السعي لتأمين مصدر آخر للكهرباء غير السفن حتى آخر يوم في عمره كوزير. وقد نجح بذلك، لكن الأميركيين منعوا مصر من تنفيذ الاتفاقية.
كانت المناظرة علنية، يشاهدها جميع اللبنانيين. انسحاق السفيرة دفع الأمين العام إلى التقدم أكثر فأكثر. ذُكرِت أعلاه 4 نقاط، وها هي نقطة خامسة: لا تريد الشركات التابعة لكم أو الخائفة منكم التنقيب عن النفط. سنحضر شركاتنا لتستخرج النفط والغاز، وسنعالجه ونصدره. أنتم تريدون إذلال الناس، ونحن نريد لهم الرخاء. أنتم شعارات واتهامات في الهواء ووعود لا يمكن تحقيقها، ونحن الخطوات العملية.
هذا كلّه عشية الانتخابات النيابية، إذ يمكن تخيّل ما سيحصل بتيار “المستقبل” و”القوات اللبنانية” ونعمة أفرام وزياد الحواط وميشال معوض ومجد بطرس حرب وصالح نهاد المشنوق، حين يكتشف ناخبوهم أنَّ “حزب الله” قادر على تزويد سياراتهم ومستشفياتهم ومصانعهم ومدارسهم بالمشتقات النفطية بسعر منخفض، فيما ليس لديهم هم ما يقدّمونه لهم غير التحريض.
راجعوا مقال “توقيت خاطئ”، وتخيَّلوا أنَّ ثمة فريقاً استنزف كل أوراقه قبل عام من الانتخابات، فيما الفريق الثاني لم يفتح حتى الآن سوى 5 ورقات في كتاب سميك، وتخيلوا هذا الإعلان: “صديقكم الأميركيّ والسعودي يريد أن يخنقنا ويجوعنا ويذلّنا ويحرمنا من الدواء، فيما حزب الله يستنفر أصدقاءه لتأمين الدواء والمحروقات لإخراجنا من هذا الذل كلّه”.
في السياسة، هذا لوحده تحوّل كبير ومهمّ، لكن الواضح أنَّ الحزب لا يقف عنده، إنما يبني عليه ليؤكد أن الطبيعة البشرية تكره الفراغ؛ الفراغ العسكري، والفراغ الأمني، والفراغ السياسي، والفراغ الاقتصادي. وإذا كان البعض قد جعل من الفراغ مشروعاً للبلد، فإن مشروعاً آخر سيتقدم لملئه، مستفيداً من كلّ معادلات الردع البرية والبحرية والجوية.
قبل بواخر النفط وقبل التنقيب عن النفط، تحدث الأمين العام لـ”حزب الله” عن مصفاتي دير عمار والزهراني. وقبل هذه جميعها، تحدث عن عروض إيرانية لبناء معامل مجانية للكهرباء، وهي عروض ما تزال قائمة، ويمكن تنفيذها بالتعاون مع اتحادات البلديات، وليس بالضرورة مع الوزارات المعنية، كما حصل في الكثير من الأوتوسترادات والبنية التحتية. بموازاة هذا كله، تذكروا وفد رجال الأعمال الروس الذي يواصل تحضير “الملف اللبناني”.
مشكلة السفيرة الأميركية الأولى أنَّها لا تقرأ غير ما يترجمه لها الحريصون على إيصال إفكار محددة تخدم وجهة نظر لبنانية فاشلة، ومشكلتها الثانية أنها لا تحيط نفسها بغير من أثبتوا حمقهم ألف مرة ومرة، ومشكلتها الثالثة أنها ككل سفير سبقها تحبّ أن تجرّب حظّها، فتورط إدارتها بخسارة أكبر من خسارة من سبقها.
والمشكلة الرئيسية هنا أنَّ قوة الولايات المتحدة كانت دائماً ترتبط بهيبتها، لكن حتى تلك العقول السخيفة التي تصدق الأساطير الأميركية تعلم أنَّ الولايات المتحدة حاولت في العام 2005 وفشلت، وحاولت في العام 2006 عبر حرب تموز وفشلت، وحاولت بين العامين 2006 و2012 عبر كلّ أشكال التحريض المذهبي وفشلت، وحاولت بين العامين 2012 و2019 عبر جيوش التكفيريين وفشلت، وهي تحاول من جديد عبر الحصار والتجويع وستفشل حتماً.
قم بكتابة اول تعليق