يواجه طلاب اليوم مشكلة كبيرة، بخلاف المسائل الحسابية التي يصعب حلها. وتتمثل هذه المشكلة في أنهم اعتادوا العمل على تطبيقات الهواتف الذكية وغيرها من المنتديات الإلكترونية على شبكة الإنترنت حتى باتوا غير قادرين على التركيز في الفصل الدراسي.
وقد ولد من تتراوح أعمارهم بين يوم واحد وأربعة وعشرين عاما في عالم يحفزهم باستمرار على النقر على الشاشة والمتابعة المحمومة بفضل الأنظمة الحسابية (الخوارزميات) الألية.
وبات لدى المعلمين أيضا مشكلة تتمثل في كيفية تكييف المنهج الدراسي التقليدي ليوافق طلابا تربوا على التكنولوجيا، فهل هناك ثمن يجب دفعه للتخلي عن الأسلوب التقليدي للتدريس؟
انتبه من فضلك!
يعد فهم الطريقة التي ينمو بها المخ في عمر مبكر مسألة معقدة للغاية. وخلال السنوات القليلة الماضية، أكد باحثون بأنحاء مختلفة من العالم على خطورة الهواتف الذكية ومتابعة الوسائط المتعددة على التركيز.
يقول جيم تايلور، مؤلف كتاب “تنشئة جيل التكنولوجيا”، إن هناك “كما متناميا من الأدلة الواضحة – حتى وإن لم تتثبت تماما واختلفت حولها الآراء – على أن التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي والوصول الفوري للإنترنت والهواتف الذكية تضر بقدرة الأطفال على التركيز. إننا نحدث تغييرا جذريا على الطريقة التي يفكر بها الأطفال وطريقة نمو مخهم”.
وقد لاحظ المدرسون ذلك أيضا، إذ تقول لورا شاد، معلمة الصفين السابع والثامن للطلاب الذي تترواح أعمارهم بين 12 و14 عاما بمدينة فيلادلفيا بولاية بنسيلفانيا الأمريكية: “هذه مشكلة حقيقية، فالمراهق على أي حال يفقد تركيزه بعد نحو 28 ثانية في المتوسط!”.
وتقول شاد إنها لاحظت تأثيرا واضحا للهواتف الذكية على تطور القدرات العقلية لطلابها، في الوقت الذي لا يتوافر فيه التدريب المناسب على كيفية مواكبة التعليم لاعتياد الطلبة على التكنولوجيا الرقمية، أو هكذا كان الحال عند تخرجها عام 2015.
وكان أوضح تأثير للتكنولوجيا قد ظهر على المهارة الدراسية الأولى، وهي القراءة، خاصة مع انتقال الأطفال من الوسائط الرقمية النصية إلى تطبيقات تعتمد على الصور مثل إنستغرام وسناب شات.
وتقول إريكا سويفت، معلمة الصف السادس بمدرسة هيرمان لايمباك الابتدائية في مدينة ساكرامنتو بولاية كاليفورنيا القريبة من وادي السليكون: “يجد التلاميذ حاليا صعوبة كبيرة في قراءة نص معقد أو طويل دون فواصل مستمرة. أما في الماضي فكان الطلاب أكثر اعتيادا على متابعة النص لأمد أطول. ويظهر تأثر الطلبة في طلب التوقف بين الحين والآخر والأحاديث الجانبية، بل وتخلي بعضهم عن القراءات الطويلة بالمرة”.
ولا يفيد نقل النص إلى جهاز، ما يشير إلى أن المشكلة أعمق من مجرد التعود على شاشة بدلا من الورق.
ويؤكد تايلور على أن الانتباه ليس غاية في حد ذاته، لكنه وسيلة لمساعدة الطلاب على مزيد من التحصيل الدراسي. ويقول: “بدون القدرة على التركيز لن يتسنى للأطفال استيعاب المعلومات، ولن تتحول المعلومات إلى ذاكرة، ما يعني عدم تمكنهم من تفسيرها وتحليلها وتضمينها في إطار أكبر ونقدها وتحديد كيفية التعامل معها”.
الفصل الدراسي في المستقبل
وعندما لا يتمكن الطلاب من التركيز لفترة أطول، يلجأ كثير من المعلمين لتجزئة الدروس لأقسام صغيرة. وتقول غايل ديزلر، متخصصة التكامل التقني لمنطقة إيلك غروف التعليمية التي تشمل المدرسة التي تعمل فيها سويفت: “يعتقد كثير من المعلمين أن الاختصار مفيد في هذا الصدد”.
وتشير ديزلر إلى أن هناك معلمين يبدأون الدرس بتمارين للتركيز أو التأمل لمساعدة الطلاب. وتستخدم معلمة بمدرسة ثانوية في ساليناس بكاليفورنيا تطبيقا يدعى “كالم” لمساعدة الطلاب على التأمل.
ويتواصل بعض المدرسين مع الطلبة على المنصات التي يرتادونها مثل يوتيوب وإنستغرام. وتستشهد آشا تشوكسي، نائبة رئيس البحوث الدولية بدار نشر بيرسون التعليمية، بمعلم يصور قيامه بتجربة علمية وينشر مقطع الفيديو على يوتيوب ثم يستخدم مقطع الفيديو في الفصل الدراسي لتوضيح بعض النقاط الخاصة في الكتاب المدرسي، الذي قد يبدو مملا للطلاب. كما تستخدم شاد أنستغرام لمتابعة الطلبة وتذكيرهم بالواجب المدرسي وجدول الرحلات الميدانية.
وتساهم تلك المنتديات في زيادة فترة التركيز، خصوصا حين توافق اهتمامات الطلبة. وتشيد ديزلر بالمدرسين الذين يربطون المنهج بأمور يعهدها الطالب، لأن ذلك يساعدهم على التفاعل بشكل مباشر.
كما تساعد المنتديات التعليمية المتخصصة مثل منتدى “فليبغريد” – والتي تتيح للطلبة المشاركة بمقاطع فيديو – المعلمين على الوصول إلى الطلبة في بيئة يألفونها. وقد وجدت دراسة أجرتها دار بيرسون عام 2018 أن الطلبة الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و24 عاما يهملون الكتب لصالح المقاطع المرئية كمصدر للمعلومات ويفضلونها عما دونها من المصادر التعليمية. وهكذا يمكن للمعلمين جذب انتباه الطلاب عبر وسيلة ألفوا استخدامها.
وتعتمد بعض المناطق التعليمية على نظم موحدة للانتقال الرقمي لمنتديات مثل “غوغل كلاسروم” التي تسمح للطلبة وأولياء الأمور بمتابعة الدرجات والواجبات المدرسية وتطوير الأداء للتغلب على مواطن الضعف لدى الطلبة.
وقد تساعد التكنولوجيا في إصلاح الضرر الذي ألحقته التكنولوجيا ذاتها بمهارات القراءة، إذ تقول شاد إن المعلمين بمدرستها بفيلادلفيا يستعينون بالحاسب الآلي لمتابعة الطلاب المتعثرين. ويستخدم منتدى القراءة المفضل للمدرسة، منتدى “ليكسيا”، الألعاب لتحفيز المشاركة، كما يصنف البرنامج الطلاب بناء على مستواهم بحيث ينقل الطلاب الأنجح لمستويات أعلى ويتابع المتعثرين عبر تمارين مبرمجة لحين تجاوز المستوى المطلوب.
وعالميا، تتصدر الولايات المتحدة ساحة التقنيات التعليمية، وحققت الشركات المتخصصة في مجال تقنيات التعليم عائدات بلغت 1.45 مليار دولار عام 2018. لكن من المتوقع أن تواجه شركات مثل فليبغريد وليكسيا منافسة متزايدة من الخارج، في ضوء التطور الهائل الذي تشهده صناعة التكنولوجيا التعليمية في شرق آسيا.
مزج القديم بالجديد
وبينما يعتمد بعض المعلمين على استخدام التكنولوجيا الحديثة في الفصول الدراسية، أشارت دراسات عدة إلى أن الفصل الدراسي بشكله التقليدي قد يؤدي إلى نتائج أفضل. وأشارت دراسة أجرتها كلية لندن للاقتصاد عام 2015 إلى أن درجات اختبار الثانوية البريطانية قد تحسنت حين منعت مدارس ببرمنغهام ولندن وليستر ومانشستر استخدام الهواتف في الفصول الدراسية.
ويستشهد ويليام كليم، أستاذ علم الأعصاب ومؤلف كتاب “دورة مهارات التعلم”، بدراسة أجريت عام 2014 ووجدت أن الطلاب الذين دونوا الملاحظات تدوينا يدويا كاملا كانوا أفضل من الذين استخدموا الكمبيوتر المحمول في استذكار للمعلومات.
وأشار كليم إلى خطورة تجزئة الدرس الواحد لأجزاء صغيرة، لأن ذلك قد يحرم الطلبة من الاستيعاب الجيد، مضيفا أن الطالب يحتاج وقتا كافيا للتفكير في موضوع الدرس قبل انتقال المعلم بسرعة لشأن آخر.
وحتى بعض الذين يفضلون الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة في مجال التعليم يشيدون بالوسائل التقليدية وينصحون بتبني توجه يمزج بين القديم والحديث.
وتقول كايتي ديفيز، أستاذة مساعدة بكلية التربية بجامعة واشنطن والعضو المؤسس للمختبر الرقمي للشباب بالجامعة، إن الوسائط الجديدة مهمة للغاية، لكنها تؤكد على أهمية دور التعليم بالطرق التقليدية أيضا.
ويجمع القائمون على التعليم، بما في ذلك من يؤيدون ومن يعارضون استخدام التكنولوجيا الحديثة، على أهمية الدور الذي يقوم به المعلم. وتقول إليزابيث هوفر، المسؤولة عن استخدام التقنيات بالمدارس العامة بمدينة ألكسندرا سيتي بولاية فيرجينيا، إنه لا بديل عن التعليم المباشر بواسطة المعلم.
وتضيف: “يبقى التفاعل المباشر مع المعلم هو المكون الأهم للعملية التعليمية بالفصول الدراسية”، مشيرة إلى أنه يجب استخدام التكنولوجيا في بعض الحالات الضرورية فقط.
وتشير شاد إلى أن كثيرا من المدرسين يعتمدون على التكنولوجيا بسبب غياب الموارد الأخرى، وتقول إنه لن يكون ضروريا اللجوء لبرامج مثل “ليكسيا” لو توافر التمويل الكافي للمدارس لتوظيف مساعدين للمعلمين بهدف مساعدة الطلبة المتعثرين.
كما تشكك صوفيا دايت، معلمة بفيلادلفيا وتُدرِّس الدراسات الاجتماعية لطلاب الصف الثاني عشر، في جدوى تمويل التكنولوجيا بدلا من توظيف مزيد من المدرسين، وتقول: “يجري الحديث باستمرار عن ضرورة استخدام التكنولوجيا بالفصل الدراسي، ما يجعلني أعتقد أن هذا التركيز يأتي على حساب إصلاحات أكثر أهمية. وبينما لا ترى الجهات المانحة أي مشكلة في تمويل شراء ألواح إلكترونية أو حواسب شخصية، فإنها لا تريد دفع أجر معلم لمدة عام!”
وتؤمن دايت بضرورة توفير التكنولوجيا للجميع حتى يحصل الطلبة على فرص متساوية، دون أن يكون ذلك بديلا عن إصلاحات هيكلية.
تعلم التفكير
وتقول تشوكسي، من دار بيرسون: “يقال كثيرا إن الشباب كسول ومشتت بسبب التكنولوجيا، لكن هذا يغفل الدور الذي تلعبه التكنولوجيا حاليا في تعليم الصغار وتمكينهم من اختيار الطريقة التي يتعلمون بها. ربما يدرس الطالب الجبر فيلجأ إلى يوتيوب لمساعدته في حل مسألة قبل أن يتجه للمعلم أو الكتاب المدرسي”.
ويشير تايلور إلى أنه مع انتشار المعلومات بشكل واسع، بات النجاح غير مرتبط بمن يعرف أكثر، بل بالقدرة على التفكير المنطقي والمبدع، وهي المهارات التي تقوضها الوسائل الرقمية بتحجيم القدرة على التركيز.
ويضيف: “أمثال زوكربيرغ وغيتس وساندبرغ لم ينجحوا في عالم التكنولوجيا لقدرتهم على التشفير، بل لقدرتهم على التفكير”.
المصدر : BBC NEWS
قم بكتابة اول تعليق