كتب الصحفي إبراهيم الأمين في صحيفة الأخبار مقالاً بعنوان ” فرنسا تلعب بالنار” أشار من خلاله إلى حجم التدخلات الفرنسية في الداخل اللبناني و التي تهدف إلى التحريض على حزب الله و المقاومة .
نص المقال :
متعِب إيمانويل ماكرون. متعب لأهل بيته قبل الآخرين. سعيه الدؤوب لتحقيق إنجازات قابلة للصرف في معركة تحسين صورته وشعبيّته داخل فرنسا ، يجعله يستخدم كل ما هو متاح من أوراق قوة أو أوراق لعب لأجل تحقيق ذلك. لكن ماكرون، الذي يقول عارفوه إنه ذكي كفاية، يتصرف بفردية مفرطة. صحيح أنه يُكثر من المستشارين من حوله وفي مؤسسات الدولة التي تخضع له، لكنه نادراً ما يتصرّف مع هؤلاء على أنهم أكثر من مساعدين تنفيذيين. ويجزم العارفون بأموره أن خطوات كثيرة قام بها أدّت الى نتائج عكسية، لسبب وحيد وهو أنه كان مقتنعاً بأن طريقته في إدارة الأمر هي الأفضل.
ماكرون شخص مستعجل. يريد تحقيق أهدافه بسرعة. يتصرّف كأنه أمام جدول أعمال واسع يشمل العالم كله. يعرف أكثر من غيره قوة فرنسا الفعلية، في الاقتصاد والسياسة والاستراتيجيا وخلافها، لكنه مثل كثيرين في القارة العجوز يعيش الإنكار حيال أن أوروبا تحوّلت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي الى تابع للولايات المتحدة الأميركية. يعاقَبون بالإقصاء إن تمردوا، أو ينفذون مع قليل من التشاور. وإذا كان ماكرون قد عانى الأمرّين مع دونالد ترامب، إلا أنه لم يصل الى ما يصبو إليه مع جو بايدن. هو يتوهّم أو يتأمّل أنه بات شريكاً للولايات المتحدة في إدارة ملفات العالم.
الإجهاد الذي يميز العمل من حول الرجل ينعكس ارتباكاً في عمل المؤسسات الفرنسية. ليس في باريس اليوم من يدّعي أن لوزارة الخارجية دورها الخاص. أو للدقة، ليس لها القرار في أي مسألة يعتبرها ماكرون ذات أولوية. وخليّة العمل الموجودة في قصر الإليزيه عرضة لضغوط جبارة، حتى يتحوّل الضغط منه الى مساعديه وإلى العاملين في القصر. لقد هرب نحو أربعة من مساعدي مستشاره إيمانويل بون بسبب جنون الأخير وكثرة تطلّبه والفوضى التي ترافق طلباته ومتابعاته. حتى في الأجهزة التنفيذية الأخرى، لا يجد الوزراء والمسؤولون الكثير من الهوامش التي تتيح لهم مفاتحة رئيسهم بهذا الخطأ أو ذاك. ومن يحاول التمايز عن الوجهة الاستراتيجية يعاقَب بشكل أو بآخر.
عودة مع ماكرون وفريقه الى لبنان. رجلان أساسيان يتولّيان الملف الى جانبه: السفير بون الذي خدم في لبنان مرات ومرات، والسفير الأسبق برنار إيمييه الذي يتولّى الاستخبارات الخارجية لفرنسا. الرجلان لديهما في لبنان ما يخصهما مباشرة. علاقات وطموحات وتصورات. لكن المشترك بينهما أمر في غاية الخطورة: عداوة مطلقة لسوريا بقيادة بشار الأسد، وعداوة محسوبة مع المقاومة بقيادة حزب الله. أما المعضلة التي يعانونها، فهي فريق الحلفاء أو اللاعبون اللبنانيون والسوريون معهم. في كل مرة، يخيب ظنّهم بسبب ضعف هذه الأدوات، وقصر نظرها وقلّة حيلتها واستعجالها، كما فسادها الذي لا يمكن كتمه أو تغطيته لوقت طويل, ومع ذلك، فإذا حاول مسؤول فرنسي، مرّ على جهاز أمني أو سفارة، أن يلفت الانتباه منتقداً، يسري عليه «الحرم» فوراً… انظروا إلى برونو فوشيه. الرجل يبدو معزولاً بلا عمل بعد مغادرته بيروت. وفي باريس اقتناع بأنه يخضع لعقاب، لأنه قدّم تصوراً لمعالجة الملف اللبناني يخالف توجّهات الثنائي بون ــــ إيمييه. وعقابه صار درساً تعلّمته السفيرة التي حلّت محلّه. هي سيدة نشطة، مثابرة، تهتمّ شخصياً بالعمل المباشر. تتابع الملفات، حتى إنها عرفت كيف توائم بين بريد الخارجية وبريد الإليزيه. تعرف بالضبط حجم الدور والموقع الذي يحتلّه وزير الخارجية جان إيف لو دريان. لا تتجاهله عملاً بالأصول، لكن تركيزها على بريد الإليزيه وما يمكن أن يصل أو يرسل الى خليّة السفير بون، من دون إهمال دور رجال برنار إيمييه في بيروت والمنطقة. وهي في هذه الفترة، متحمسة أكثر من السابق لرفع الصوت، معلنة أن المعركة دخلت طوراً جديداً.
بين أيار وحزيران الماضيين، اجتهدت السفيرة آن غريو في تقديم تقييم جديد لموقع بلادها في المعادلة الدولية العاملة على الملف اللبناني. هي تحسم لمن تلتقي بهم بأن الأمور تبدّلت بعد خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض. تتحدث عن رعونته واحتقاره لكل الآخرين، ورفضه التعامل مع أوروبا كشريك. وتقول صراحة إن ترامب وأعضاء إدارته كانوا يفترضون أن فرنسا يُسمح لها بأن تلعب في الوقت الضائع. حتى حصل الصدام. تشرح هي بالتفصيل، أمام من تعتبرهم «رجال المرحلة» من اللبنانيين، أن المشكلة التي كانت قائمة سابقاً سببها وجود خطتين وتصوّرين، كل واحدة تخص طرفاً. لكن بعد وصول بايدن الى البيت الأبيض، حصل توافق على رؤية موحدة، أساسها أن أميركا قررت التعامل مع أوروبا كشريكة. وبناءً على مداولات مكثفة، تقول السفيرة إن ملف لبنان اليوم يعمل وفق رؤية مشتركة جرى التوافق عليها بين الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا. صحيح أن الفرنسيين لديهم حساسية تاريخية تجاه الأفضلية البريطانية عند الأميركيين، لكنهم اليوم يعانون من حساسية مفرطة إزاء الدور الألماني. ربما يفكر الفرنسيون أنه في حال موافقة واشنطن على منحهم دوراً بارزاً في المجالين السياسي والأمني، فهي لن تسلّمهم رقبة لبنان، بل إنها ستجعل بريطانيا رقيباً دائماً على كل ما يتعلّق بعمل القوى العسكرية والأمنية، وربما يفضّل الأميركيون أن يكون الملف الاقتصادي بيد الألمان. وهذا ما يفسر جانباً من «الركض الفرنسي» تجاه مشاريع إعادة الإعمار في لبنان، من المرفأ الى غيره، والعودة الى برنامج تسليح القوة البحرية للجيش اللبناني، علماً بأن زيارة وفد رجال الأعمال الفرنسيين لبيروت، والزيارة المتوقّعة لوزير التجارة الخارجية، لا تشير الى وجود برامج واضحة أو مشاريع جاهزة.
أحد المشاركين في وفد رجال الأعمال، قال لصحافي فرنسي بوضوح: «نحن لسنا جمعية خيرية، ولا نملك المال الكافي لتمويل المشاريع. نحن نريد إقراراً من الحكومة اللبنانية بأفضليّة شركاتنا، وأن يسمح لنا بالتفاوض مع الجهات الدولية المموّلة لأجل الحصول على ما يكفي لإقامة هذه المشاريع».
وهؤلاء لا يكتفون بذلك، بل ينتقلون فوراً الى العبارة المفتاح، وهي: «يجب أن تكون المرافق تحت إشرافنا الكامل. ليس بالضرورة أن نشتريها، ولكن أن نديرها وفق أحد أبواب الخصخصة الممكنة، ولفترة زمنية لا تقلّ عن ثلاثين عاماً، وتحت إشراف كامل من قبلنا لضمان إنتاجها من جهة، وضمان استعادة الأموال المفترض إعادتها إلى المقرضين». وبطبيعة الحال، لا يتعب الفرنسيون، مثلهم مثل جميع رجال الأعمال، في شرح أنهم الأقدر والأكثر تفاعلاً، وأنهم يخطّطون ليس لإعمار جزء من المرفأ، بل لأجل إحياء مدينة بكاملها، أن تصوّراتهم للمرفأ الجديد تستهدف تنمية مستدامة وواسعة الاتجاهات… لكن هل من دراسة قابلة للنقاش؟ عندها ينظر الجميع الى بعضهم البعض، ويشيرون الى أنهم يريدون تمويلاً أولياً لوضع الدراسات قبل عرضها على لبنان بغية نيل موافقته، ثم للشروع في الأعمال. ولا ينسون مباغتة اللبنانيين بمفاجأة يعتقدون أنها مؤشر قوي: في الرابع من آب المقبل، ستعمد شركة الشحن البحري CGM الى إعادة افتتاح مكاتبها في بيروت التي تضرّرت في انفجار المرفأ قبل أكثر من أحد عشر شهراً. يريد هؤلاء أن يحتفل لبنان معهم بهذا الإنجاز العظيم!
على أن المسالة لا تقف عند هذا الحد، ذلك أن فرنسا التي تتولّى الآن دور المتحدّث الأول في الملف الداخلي اللبناني، تتصرّف كما لو أنها تملك من الأوراق ما يكفيها لكي تلاعب الجميع في لبنان. وهي تعتبر أنه بمجرد أن تكون على تواصل سياسي مع حزب الله، فهذا كاف لكي يقبل الحزب بتصوراتها. وثمة فوقية مقززة لدى الفرنسيين وهم يشيرون الى هذا الأمر على سبيل أنهم يمنحون المقاومة في لبنان بركة قبولهم التحدث معها، «بينما يرفض المجتمع الدولي ذلك». المشكلة هنا أن فرنسا لم تتعلم شيئاً لا من ماضي الاستعمار القديم ولا من محاولة إعادة الاستعمار المباشر قبل نحو أربعين سنة، ولا من كل ما مرّ عليها ومعها وبسببها في منطقتنا. فرنسا لا تزال فرنسا، بل هي من سيئ الى أسوأ.. ترى، هل يفكر الفرنسيون لحظة بأن المقاومة في لبنان هي من يمنحهم فرصة التحدث إليها، بينما يقف العالم كله طالباً التواصل؟
هل ينسى الفرنسيون قبل شهور عدة ما حصل عندما طلب العدو من الأمم المتحدة نشر كاميرات مراقبة على الحدود الجنوبية؟ ألم تتعب فرنسا لأجل تمرير مشروع تعرف أنه يخدم العدوّ وحده؟ ألم تفهم لماذا لم تكن طرفاً في التواصل لا هي ولا إسبانيا المتورّطة أصلاً في لعبة التجسس من خلال قوات الطوارئ الدولية لمصلحة إسرائيل؟ ألم تفهم لماذا رفض حزب الله التحدث مع البريطانيين، بل رفض حتى تلقّي رسالة تطلب الاجتماع بهم؟ ألم تفهم لماذا اضطرت الولايات المتحدة والأمم المتحدة ومعهما فرنسا وإسبانيا وبريطانيا الى الطلب من سويسرا لأن تقوم هي بالتواصل مع حزب الله بغية إقناعه بأن الكاميرات لا تستهدف الجنوبيين؟ وحسناً فعل السويسريون الذين سمعوا الرسالة وفهموها جيداً: أيّ كاميرا تنصب لمراقبة المقاومة سوف تكسر، وكل يد تحاول إصلاح ما كسر ستكسر أيضاً… ألم تعرف السفيرة الحالية، لماذا بادر الجيش اللبناني من خلال موفد شخصي للعماد جوزف عون الى إبلاغ فرنسا أن الحزب لن يوافق على المشروع وأن الجيش ينصح بتجاهل الأمر لأن أحداً لا يريد الصدام؟
يبدو أن فرنسا لم تفهم الرسالة بعد. بل هي تتصرف على أنها صاحبة الحق في الوصاية الكاملة. وأنها عندما تركت لبنان، كانت في إجازة، لكنها عادت لتجد شعبه وقياداته في حالة عجز، وهي من يقرر كيف تدار الأمور.
قم بكتابة اول تعليق