كتب الصحافي و المحلل السياسي غسان سعود اليوم مقالاً حمل عنوان ” خيمة السفارة السعودية”، قارن فيه بين تأثير و نتاج الأموال السعودية و الأموال الإيرانية التي أُغدق بها لبنان.
و في ما يلي نص المقال :
“دفع السعوديون عشرات مليارات الدولارات في لبنان، ليس لتحقيق مكسب سياسي أو لفعل الخير، إنما ثمناً لبضع قصائد كتبها خبراء الشعر الذليل.
لا يخفى عن أحد أنّ ثمّة دولتين إقليميتين تتنازعان النفوذ في لبنان منذ العام 2005، هما السعودية وإيران. وهنا، لا توجد أرقام رسمية أو شبه رسمية يُعوّل عليها للمقارنة بين إنفاق كلّ منهما، لكن يمكن في المقابل المقارنة بين نتائج الإنفاقين.
على مستوى البنية التحتية، يمكن رؤية جسور و”أوتوسترادات” ومعامل فرز للنفايات ومشاريع ريّ وشبكات صرف صحي في أكثر من محافظة، وخصوصاً في البقاع والجنوب وقضاء بعبدا، موَّلت إيران إنشاءها، فيما لا يمكن في المقابل ملاحظة أيّ شيء من هذا القبيل على جدول الأعمال السعودية في لبنان خلال الأعوام الـ16 الماضية. يكفي في هذا السياق أن يقارن المواطن العادي بين طريق عام بعلبك – الهرمل وطريق عام طرابلس – المنية – عكار، ومعدلات نمو القطاعين الزراعي والصناعات الغذائية في كل من بعلبك وعكار.
على المستوى الحزبي، يمكن رؤية الأموال الإيرانيَّة وقد حوّلها “حزب الله” إلى مؤسَّسات اجتماعية وتربوية واستشفائية ضخمة جداً، يستفيد منها عشرات الآلاف، إضافةً إلى جهازه العسكري- الأمني الضخم، بترسانته القتالية الضخمة أيضاً، وعشرات آلاف الأجور الشهرية.
في المقابل، لا يمكن رؤية الأموال السعودية سوى في قصور بعض السياسيين واللوحات والسيارات واليخوت والشاليهات، إذ لم يؤسّس تيار “المستقبل” و”القوات اللبنانية” مؤسسة اجتماعية أو تربوية أو استشفائية واحدة من كل هذا الإنفاق، باستثناء المساكن الطلابية المتواضعة التي تتفاخر بها القوات بعد 16 عاماً من التدفق المتواصل للأموال السعودية.
على المستوى الإعلامي، تكثر التسريبات عن أرقام خيالية أنفقتها السعودية على جميع أشكال وألوان وسائل الإعلام التي لم تتملك السعودية فيها، رغم هذا كله، سهماً واحداً، إذ يكفي أن يأتي من يدفع لها أكثر لتهجر المملكة وتؤيده.
أما إيران، فقد أنشأت في المقابل وسائلها الإعلامية الخاصة التي تملكها وتديرها من دون الخضوع للابتزاز المتواصل، كما يحصل مع السعودية. وإذا كانت الأخيرة قد تقدمت على إيران في سباق المسافة القريبة، على المستوى الإعلامي، فإن استراتيجية إيران تتيح لها الفوز في المسافات الطويلة، فهي تطور أدواتها الخاصة التي لا يستطيع أحد الدخول إليها، فيما تستخدم السعودية أدوات يسهل مزاحمتها عليها حين تستدعي الحاجة ذلك، إضافة إلى أن الحماسة في الإعلام الإيراني تتراوح بين السياسي والعقائدي والديني، فيما الانتماء ماليّ في الإعلام السعودي.
هذا كلّه مهم في سياق المقارنة بين نتائج الإنفاقين، إلا أن الأهم هو الخيمة: الإنفاق الإيراني شمل ترسانة عسكرية ومؤسسات اجتماعية وتربوية واستشفائية وبنية تحتية وغيرها الكثير، لكنه لم يأخذ بعين الاعتبار وجوب إنشاء خيمة، كتلك التي أنشأتها أخيراً السفارة السعودية.
وهنا، تستطيع السفارة الإيرانية أن تصطحب من يشاء في جولة على المشاريع الكثيرة التي مولت إنشاءها، فيما لا تجد السفارة السعودية ما تعرضه للجمهور، باستثناء الكتاب الذهبيّ في الخيمة لقراءة قصائد المديح، فالإنفاق الإيراني ترجم بنية تحتية ومؤسسات اجتماعية وترسانة عسكرية. أما الإنفاق السعوديّ، فترجم بمجموعة قصائد مديح ركيكة تتخبط فيها البحور. لقد دفع السعوديون عشرات مليارات الدولارات في لبنان، ليس لتحقيق مكسب سياسي أو فتوحات اقتصادية أو لفعل الخير الإنساني، إنما ثمناً لبضع قصائد كتبها خبراء في كتابة الشعر الذليل، ممن توارثوا صفة المداحين لمن يدفع أكثر أباً عن جد.
ومع ذلك، إن ما شهدته السفارة السعودية مؤخراً ليس حدثاً عادياً؛ ففي العلاقات الدبلوماسية بين الدول والشعوب، يمكن لدولة الإيعاز إلى أحزاب تموّلها في دولة أخرى أن تصدر بيانات شكر أو تأييد، ويمكن لجهاز استخباراتي في دولة أن يغمز كاتباً أو مدوناً لتهديد دولة أخرى بالتضييق على مغتربيها. أما أن تنصب سفارة دولة خيمة لاستقبال وفود المادحين بكرمها والمطبلين والمزمّرين لمكرماتها التي لا يمكن رؤيتها، سواء في البنية التحتية أو في المؤسسات الاجتماعية والتربوية والاستشفائية والإنتاجية، فهو أمر غير مألوف، يزيد من بشاعته تصوير الكاميرات للضيوف وتعميم صورهم في خيمة السفير، كأن السفارة ترغب في الإمعان في إذلال هؤلاء، في ظل استنفار مواقع التواصل الاجتماعي لانتقاد هذه الصور بحماسة، مع العلم أن هذه العراضة تلحق ضرراً هائلاً بصورة المملكة، إذ تظهرها بمظهر من يحتاج إلى هذه الشعائر من أجل تعزيز ثقته بنفسه.
وإذا كانت الخيمة تمثل تتويجاً لمسار طويل من الاستثمار السعوديّ في قطاع كتابة قصائد المديح الركيكة في لبنان، فإن جديد المملكة هو هذا التهديد الوقح المتواصل لليد العاملة اللبنانية بطردها من وظائفها فيها، لأن صحافياً أو سياسياً من وطنها يعبّر عن رأيه بما لا يناسبها.
هنا أيضاً، تفعل السعودية ما لا يمكن تصديقه: تستطيع دولة أن تتوقف عن إصدار تأشيرات دخول لمواطني دولة أخرى في حال نشوء أزمة دبلوماسية بينهما، أو تقطع علاقاتها الدبلوماسية معها، وتسحب السفراء، وتوقف العمل باتفاقية تجارية. أما تشويه سمعة بلد، عبر تضخيم حوادث تهريب المخدرات وتهديد موظفين لبنانيين بطردهم من وظائفهم، فلا يمكن إيجاد أي توصيف عقلاني له، سوى كشفه أن هذه المملكة (التي دفعت كل ما دفعته لهؤلاء الفاشلين في السياسة والإدارة وبناء الأحزاب) لم تعد تملك أية أوراق ضغط يمكن استخدامها في لبنان سوى أعناق بعض الموظفين الذين ذهبوا إليها آمنين، وإذا بها تأخذهم رهائن وتهددهم بأرزاقهم.
واللافت هنا أنها لا تهدد هؤلاء بناء على شيءٍ ما قالوه، بل يكفي أن يكونوا لبنانيين، في الوقت الذي يوجد لبنانيّ واحد لا يعجبها، لتهدد بالانتقام عبرهم جميعاً، في ظل تضخيم مضحك للأرقام، بحيث يبدأ شعراء خيمة السفير بالحديث عن 100 ألف لبناني يعملون في السعودية، ثم يصل عددهم إلى 500 ألف، في وقت تؤكّد الأرقام الرسمية أن العدد لم يعد يتجاوز بضعة آلاف، بعيد إفلاس الشركات الحريرية وطردها من المملكة، مع العلم أنَّ من يكررون الحديث عن أهمية العملة الصعبة التي تصل من السعودية لا يحسبون حساباً أبداً للعملة الصعبة التي تصل من إيران، وهي في هذه الأيام أضعاف أضعاف ما يصل من السعودية.
عود على بدء، ثمة دولتان إقليميتان تتنازعان النفوذ في لبنان منذ العام 2005، هما السعودية وإيران. السعودية تحتاج إلى خيمة لتعزز ثقتها بنفسها، بخلاف السفارة الإيرانية. لا سفارة إيران تفعل ما فعلته سفارة السعودية، ولا المستفيدون منها يفعلون ما فعله المستفيدون من السعودية. يستطيع كل متابع متصالح مع نفسه أن يلاحظ الفارق الكبير في حرص كل من السفارتين على كرامة اللبنانيين من جهة، واحترام المستفيدين لأنفسهم من جهة ثانية.
هذا التزلّف والانبطاح وإذلال النفس غير موجود سوى في مكان واحد. لا إيران تطلبه ولا المستفيد يفعله، بعكس ما أظهرته خيمة السعودية، مع العلم أن هذه الظاهرة الخاصة بالمنتفعين من المال السعودي توّجت بالخيمة، لكنّها أوسع بكثير، فهي تظهر على شكل لافتات في شوارع بعض المدن تارة، والمقالات طوراً، والتغريدات دائماً، إذ يعتقد من يتابع بعض الإعلاميين والناشطين والسياسيين والنواب أنهم لن يحصلوا على أجورهم آخر الشهر ما لم يكتبوا مديحاً بـ”طويل العمر” أو “وليّ العهد والنعم”. هناك من يطلب قصيدة أو زيارة للخيمة، وهناك من يطلب إنجازاً ميدانياً ومؤسسة رعاية ناجحة واستمرارية. هذا هو الفرق بين المدرستين.”
قم بكتابة اول تعليق