كتب الصحفي غسان سعود في الميادين مقالاً بعنوان : ” المشهد الأفغاني لبنانياً : عِبرٌ من تجارب العماد عون” ، كشف من خلاله سياسة الولايات المتحدة الأمريكية مع من يتوهّمون أنفسهم حلفاء لها، مستشهداً بتجربة رواها العماد ميشال عون بالإضافة إلى محطات أخرى من استغلال هذه الدولة للشباب من أجل تحقيق مطامعها.
نص المقال :
” لا بدَّ من قرع أبواب البيوت واستئذان أصحابها لـ”تقديح” الجدران وتعليق “برواز” كبير. لا بدَّ قبل ذلك من طبع الصور وتصنيع “البراويز”؛ صور الأفغان الذين عاشوا “الحلم الأميركي”، وافترضوا أن الأميركي يبالي بهم ولن يتخلى عنهم، صورهم يتدافعون للإمساك بدواليب الطائرات الأميركية وهي تغادر غير مبالية – كالعادة – بمن يفترضون أنفسهم حلفاء الولايات المتحدة، صورهم يتساقطون من السماء بعدما عجزوا عن التشبث بالطائرة من الخارج. صور جديدة تختصر آلاف الصور القديمة. صور هي القاعدة في تعامل الأميركيّ مع أدواته، لا الاستثناء، فالولايات المتحدة يمكن أن تربح معركة، لكن يستحيل أن تربح حرباً يمكن أن تدمّر كلّ شيء، لكن لا يمكن أن تبني أي شيء. وإذا كانت التجربة الأفغانية غنية جداً بالعبر، فإن التجربة اللبنانية غنية هي الأخرى بالعبر المماثلة.
في العام 2006، كانت الحرب الإسرائيليّة على لبنان تدخل يومها العشرين، فيما العماد ميشال عون يستقبل مجموعة طلابية لمناقشة ما يحصل، وإذا بأحد الحاضرين يطرح السؤال الحاضر بقوّة في كلّ حين عن خلفيات تمسك “الجنرال” بخيار التحالف مع “حزب الله”، رغم كل ما يمثله ذلك من استفزاز للغرب الممثل بالولايات المتحدة، ليبدأ صاحب الدار عرضاً تسلسلياً متماسكاً لكل التجارب المريرة التي اختبرها في حياته.
بعيد 3 سنوات فقط من انضمامه إلى المؤسَّسة العسكريّة (دخلها في العام 1955)، كان الرئيس الأحبّ إلى قلبه كميل شمعون يواجه واحدة من أكبر المعضلات لمحاولة إقناع الأميركيين بالالتفات إلى لبنان. وحتى بعد صدور قانون آيزنهاور الَّذي ينصّ على “حماية الولايات المتحدة وحدة واستقلال الدول التي تطلب العون”، واصل المسؤولون الأميركيين القول لمن يراجعهم من دبلوماسيي شمعون إنَّ “الله يساعد أولئك الذين يساعدون أنفسهم”. وحين تدخَّلوا عسكرياً أخيراً، فإنَّهم فعلوا ذلك من دون استراتيجية شاملة أو خطة واضحة، ليُفاجأ الرئيس شمعون بهم يؤيدون انتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، بعدما كانت كل سياستهم تقوم على تحريض شمعون ضد شهاب.
ومن يومها، كان واضحاً، يقول العماد عون لضيوفه، أن الأميركيين يواصلون دعم من يفترضون أنفسهم حلفاءهم إلى حين الاتفاق مع خصومهم. وعلى نحو فائق الغرابة، لا تعنيهم مصلحة حلفائهم المفترضين، إنما يعنيهم التفاهم مع خصومهم المفترضين، لا يبالون بمصلحة الحليف، لكن يعنيهم استرضاء الخصم. كان الرئيس شمعون ينتظر وصولهم ليستقوي بهم على خصومه، وإذا بهم يصلون ليطلبوا منه التنحي لخصمه.
“كنت هناك يومها” و”كنت هناك أيضاً في العام 1976″ حين كانت الجبهة اللبنانية تنتظر المساعدة الأميركية الجدية، غير مصدّقة أنَّ مشروع “الوطن البديل” للفلسطينيين الذي يقاتلونه ما هو إلا المشروع الأميركيّ، وليس لدى الأميركيين ما يقدمونه للمسيحيين غير المعارك العبثية الخاسرة و… سفن الهجرة في أفضل الأحوال.
أما الأخطر من هذا كلّه، فكان تهجير شرق صيدا وحرب الجبل؛ الحرب التي تسبَّبت بواحدة من أكبر الخسائر التي لا تُعوّض في تاريخ المسيحيين، لمجرد أنَّ الحليف الإسرائيلي المفترض للقوات اللبنانية والرئيس أمين الجميل أدار ظهره لهما ورحل، تماماً كما عاد الإسرائيليون والأميركيين وفعلوا في محطات كثيرة جداً، أبرزها العام 2000.
وإذا كانت حرب الجبل درساً يفترض أن لا يُنسى، فإنَّ العماد عون خاض تجربته الخاصة والمباشرة في العام 1989 باللحم الحيّ، حين رأى وسمع ما يوصف بالعالم الحر يخيره بين “مخايل الضاهر أو الفوضى”، فخلص إلى قناعة راسخة بأنهم يبيعون كلّ شيء بمجرد أن يلمحوا فرصة للتفاهم مع خصومهم المفترضين، وهم لا يبحثون سوى عن أدوات توصلهم إلى هذه التفاهمات.
والخلاصة من تلك الجردة التاريخية في تلك الجلسة أنّ الغرب الممثل بالأميركيّ لا يبحث عن حلفاء، إنما عن مجرد أدوات يستخدمها كمرتزقة ليقاتل بها. وفي جلسة لاحقة بعد نحو 10 سنوات، كان العماد عون يستعيد الكثير من هذه التجارب، ليقارن مع من عقد تحالفات مغايرة، مع الجهات الدولية الأخرى، ويستخلص العبر. هناك من يتخلى عن حلفائه عاجلاً أو آجلاً، وهناك من يحمي حلفاءه، مهما كانت التسويات، ويراكم قوتهم، مهما كانت الظروف، في السلم والحرب، لا في الحرب فقط، كما يفعل الأميركيّ. والواضح في هذه السياقات المختلفة أنه لا يوجد ما يمكن تسميته بحلفاء الولايات المتحدة، فهناك:
1. خصوم الولايات المتحدة.
2. أدوات محلّية تستخدمها الولايات المتحدة لتحقيق التوازن اللازم مع هؤلاء الخصوم. هذه الأدوات تشبه بعضها، سواء في السياسة أو الأمن أو الإعلام أو جمعيات المجتمع المدني، وهي تُستقدم بالمناسبة من جميع الدول إلى واشنطن لتلقّي برامج تدريب موحّدة، كما تنظم وتدير برامج متشابهة جداً في غالبية دولها.
وهذا يقود إلى 4 نقاط إضافية:
3. لا يوجد قانون، سواء إداريّ أو أخلاقيّ أو معنويّ، يلزم الإدارات الأميركية بحماية هذه الأدوات أو أقلّه الحفاظ عليها لمواجهات محتملة لاحقة: يمكن رميهم في السجن أكثر من 10 سنوات أو تصفيتهم أو إدارة الظهر والمغادرة بالطائرات بعيداً منهم أو أمرهم بالتنحّي بكلِّ بساطة لخصومهم، كما فعلوا مع الرئيس شمعون.
4. بمعزل عن الربح والخسارة، لا يوجد أيّ ضمانات للأدوات بالاستمرارية في ظلّ تغير الإدارات، إذ يمكن للإدارة الديمقراطية أن تضع استراتيجية عمل مختلفة بالكامل عن الإدارة الجمهورية التي سبقتها، ويمكن أن يتغير موظف واحد في الإدارة، فيغير كل خطة العمل بكل أدواتها. ولا يمكن بالتالي لمن يعتقد أنَّه يعمل مع أعظم قوة في العالم أن يتمتّع بيوم واحد من الاستقرار الوظيفي.
5. جميع المواجهات السابقة، وخصوصاً في العقدين الماضيين، تظهر أنَّ خصوم الولايات المتحدة في الدول القريبة والبعيدة هم الَّذين ينتصرون في النهاية، فهي تنتصر مع حلفائها – عسكرياً – لمدة زمنية قصيرة، لكنّها تعجز على نحو رهيب ومتكرّر عن الحفاظ على هذا الانتصار.
6. على نحو متكرّر ورهيب أيضاً، تدير الولايات المتحدة ظهرها لأدواتها من دون تكبيد نفسها عناء إيجاد مخرج مشرف لهم أو ضمان أمنهم، وهو ما يشمل حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين أيضاً. هذا ما حصل في لبنان، سواء في شرق صيدا أو في حرب الجبل أو عند الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، وهو ما حصل أيضاً مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري حين قررت السعودية التصالح مع سوريا.
وعليه، إنّ العمل مع الولايات المتحدة يعني الارتضاء بأن تكون مجرد أداة مرحلية، لا حليفاً. وكأداة، لا يمكنك الاطمئنان أبداً إلى مستقبلك، إذ يمكن استبدالك أو الاستعاضة عنك بأداة أخرى في أية لحظة. أما الهدف، فلا يمكن أن يكون أبداً تحقيق مصلحة الأدوات، إنما مصلحة الولايات المتحدة أولاً وأخيراً.
وحين يتعلق الأمر بما تفترضه الإدارة الأميركية مصلحة أميركية، لا يوجد أخلاق أو شرف أو تحالفات أو رد جميل أو مبادئ أو قيم أو أشخاص لا يمكن التخلي عنهم؛ ففي سبيل تحقيق مصلحة الولايات المتحدة، كل شيء مباح. والكارثيّ هنا أنَّ أحد الدبلوماسيين سيزورك ليخبرك أنَّ مصلحة الولايات المتحدة هي كذا وكذا، فتبني حساباتك على هذا الأساس، لكنَّ الإدارة المسؤولة عن هذا الدبلوماسي قد تتغيّر في أية لحظة أو يتغيّر الموظف المسؤول عنه، فتتغير معه مصلحة الولايات المتحدة، لكنه لن يخبرك بذلك لتتخذ احتياطاتك، إنما ستفاجأ به يضحّي بك.
علاقة الإنسان بكلبه معقّدة جداً. علاقة الجيوش بالكلاب المدربة معقدة جداً هي الأخرى. في أفغانستان، كما في لبنان، هناك شبان وصبايا ورجال ونساء، أشعرهم الأميركيون بأنهم يستشيرونهم في كل صغيرة وكبيرة، ويدعمونهم وينتظرون أفكارهم النيرة، ويتطلعون إلى تحقيق أحلامهم المشتركة، وإذا بهؤلاء الشبان والصبايا والرجال والنساء يشاهدون أصدقاءهم المفترضين يركضون مع كلابهم نحو الطائرات للمغادرة، فيما هم عالقون خلف العوائق الحديدية. الأصدقاء المفترضون والشبان والصبايا الذين يشعرونهم بأنهم سيدمرون الكون من أجلهم، يعاملون كأقل من الكلاب بكثير. المشهد الأفغانيّ تاريخيّ فعلاً. اختصر تاريخ الولايات المتحدة.”
قم بكتابة اول تعليق